- اسم الكاتب:الشيخ سلمان العودة
- التصنيف:خواطـر دعوية
صاحبي تدين أخيرا ولم يحصل على تعليم كاف، وتلقى ممن حوله بضع مسائل يدور عليها حديثه واهتمامه؛ كتب لي رسالة يشكو فيها من مظاهر سلبية تدور حول اللحية، والإسبال، والغناء، وكشف وجه المرأة، والنمص، والتدخين.. احتسابه محمود، ونيته صالحة، وللشريعة كلمتها في التفصيلات كما لها كلمتها في الكليات، ولكنه يحتاج إلى أن يعطي موضوع الإيمان وترسيخه في القلب والعقل، وتعظيم الله ومحبته ورجاءه وخوفه مزيدا من الاهتمام والأولوية! يحتاج إلى جؤار إلى ربه بالشكوى من هشاشة الإيمان، وغياب الإحساس بالرقيب الرباني لدى الناس، وسطوة الماديات، وضعف الأخلاق، وجفاف الروح!
كان الصحابة يتعلمون الإيمان قبل القرآن، كما يقول ابن عمر: "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان" (أخرجه الحاكم وغيره وصححه). وعن جندب بن عبد الله قال: (كنا مع النبى -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا)(أخرجه ابن ماجه).
ومن معنى هذا أن يبدأ التفقه والتعلم بمعرفة أسماء الله وصفاته، ودراستها دراسة ربانية تقوم على تجذير الإحساس بها في القلب قبل الخوض في الجدل مع المخالفين والمنحرفين، وليس كل أحد يحتاج إلى الجدل ومعرفة طرائق الفرق ومذاهبها، وإنما هذا شأن المتخصصين والباحثين. وإذا كان ابن عمر تجرأ وعاب قراء زمانه بأنهم يتعلمون القرآن ثم يتعلمون الإيمان، فكيف سيقول عمن يتعلمون القليل من القرآن ولا يتعلمون معه ولا بعده دروسا حقيقية في الإيمان؟
تعرف إلى الله بآياته وكلماته وأفعاله معرفة تورث الحب، فالحب هو أعظم مكونات العبودية، وله النصيب الأوفر والحظ الأكثر، فهو كالرأس للطائر. ويأتي بعد ذلك الرجاء والخوف، وهما متعادلان متساويان كالجناحين.
حين تعرف ربك ورحمته وفضله وسعته وكرمه، وتعرف عطاءه وجوده، وتعرف عقابه وعذابه للمعاندين، فسوف تعتدل كفة الأحكام عندك، وتعطي كل ذي حق حقه دون إجحاف أو اعتساف، ستتوازن في عنايتك بالباطن والظاهر، وتتوازن في مراقبة نفسك قبل مراقبة الآخرين.
الإيمان أولا؛ هو الشعار الذي يجب أن تقوم عليه التربية والدعوة والتعليم، ثم تبنى المسائل العملية على ذلك الأساس المتين بلا إفراط ولا تفريط.
قد تشيع الثقافة الدينية في مجتمع ما، ولكن هذا لا يعني أن الناس أصبحوا متدينين حقا وصدقا حتى يصرفوا الجهد الكبر والأعظم والأطول لمسألة الإيمان القلبي الصادق العميق؛ الذي يصل العبد بربه خضوعا وخشوعا ومحبة ورجاء وخوفا وإدراكا لحكمته في الأقدار، وإيمانا بوعده ووعيده وأخباره وأحكامه حتى لو لم يعلمها تفصيلا فهو مستعد للإيمان بها وامتثالها والاستسلام لمقتضياتها.
في قوله سبحانه: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} (هود:17). أشار ابن تيمية إلى أن البينة هي الإيمان والشاهد الذي يتلوه هو القرآن.
وفي قوله تعالى: {نور على نور} (النور:35). قال: نور الإيمان، ثم نور القرآن.
وكان السلف يعتنون بتعليم الصغار (المفصل) من القرآن ويسمونه (المحكم)، حتى قال عمر: "من كان منكم متعلما فليتعلم المفصل فإنه أيسر"، والمفصل يكاد أن يكون من المكي المتخصص بترسيخ العقيدة وتدعيم الإيمان والتعريف بالله.
ثم شباب منشغل عن الدين الحق بالتدين الفرعي التفصيلي، ومنشغل عن تقويم نفسه بتقويم الآخرين، وعن مراقبة باطنه بمراقبة الخلق أو التسرع في إصدار الأحكام ضدهم.. وكأنه قاض في محكمة جنايات!
تعتني الدروس الرسمية والحلق العلمية بآيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، وفقه الأحكام حتى لطفل في المرحلة المتوسطة أو الثانوية، فضلا عن فتى في الجامعة، ثم تصبح هذه المعلومات المدروسة محور الجدل والحوار والبحث والملاحظة والإنكار، حتى يقول كثير من الطلبة: أتمنى أن أصبح مفتيا أو فقيها، وقد يكون ذلك لتطلع نفسه لنوع من الرئاسة والوجاهة على حداثة سنه!
أين الدروس التي تزرع فينا حب الله منذ نعومة أظفارنا؟
- أين المجالس التي تملأ جوانحنا بتعظيمه ورجائه وخشيته؟
- أين الحلقات التي تحبب إلينا شخص نبينا الكريم وسيرته وسنته؟
- أين نتعلم مكارم الأخلاق والآداب في اللسان والجوارح؟ والتي إنما بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- لتكميلها وتتميمها.
- أين نجد رياض الجنة التي تصلنا بالله وتعزز إيماننا، وتصلنا بالقرآن كما أنزل، لا تقتصر على أحكام الحلال والحرام أو معرفة المفردات أو الإعراب فحسب؟
ثم فقهان محتاجان إلى تأمل ونظر:
أولهما: فقه الأولويات، ووضع الأمور في ترتيبها الصحيح من غير إخلال بأصل ولا بفرع.
والثاني: فقه المقادير؛ الذي يعنى بإعطاء كل ذي حق حقه من غير إسراف ولا إقتار.
اللهم اجعلنا ممن أردت بهم خيرا ففقهتهم في الدين وعلمتهم التأويل، واجعل ما علمتنا حجة لنا لا حجة علينا يا أرحم الراحمين.