خاتمة الحسنى

0 1577

"بداية مشرقة، ونهاية مفرحة"، تلك هي خلاصة حياة المؤمن وقصته في دار الفناء، وبين البداية والنهاية إشراقات وتألقات تدل على نفس كريمة، إن نشدتها في ميادين البر وجدتها، وإن طلبتها عند الفضائل رأيتها، حتى إذا تنزلت ملائكة الرحمة لتتلقى روحه وتطوي سيرته رأيت في موته أمارات ودلالات تدل على خيرية عاقبته وحسن خاتمته، بما يدخل السرور على قلوب ذويه وينسيهم كرب فقدهم له.

ولا ريب أن الكاشف لسريرة أهل الصلاح والمخبر عن مكنوناتهم إنما هو لحظة خروج الروح، إذ دل الشرع والواقع على وجود أحوال معينة تعد بمثابة المؤشرات الدالة على حصول السلامة والفوز في اختبار الحياة، وهذه الأحوال تسمى بعلامات حسن الخاتمة.

والتوصل إلى الخاتمة الحسنة وصية رب العالمين، نراها جلية في قول الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102)، وهي دعوة الأنبياء والمرسلين، قال سبحانه وتعالى:{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (البقرة:132)، وهي رجاء الخائفين، قال سبحانه: { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} (آل عمران:193)، ودعاء المتقين، قال تعالى:{ ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين} (الأعراف:126).

وعند العودة إلى مصادر الشريعة واستقرائها نلاحظ أن علامات حسن الخاتمة وإن تعددت صورها وتباينت أحوالها إلا أنه يمكن تقسيمها بحسب متعلقاتها على النحو التالي:

أولا: الموت في شرف الزمان: دلت النصوص على أن بعض الأزمان أشرف من بعض، فالعشر الأواخر أفضل من غيرها، وأيام ذي الحجة أفضل من سواها، وهذا التفاضل بين الأوقات مرتبط في الغالب بمضاعفة الأجور وقرب العباد من الله سبحانه وتعالى كما هو الحال في ثلث الليل الأخير ويوم عرفة الذي قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟) رواه مسلم، فالمقصود أن من مات في هذه الأزمنة الفاضلة يرجى له الخير.

وقد ورد في الموت ليلة الجمعة أو نهارها فضل خاص بينه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة, إلا وقاه الله فتنة القبر) رواه الترمذي، فإذا كانت البشارة فيمن مات في هذا اليوم الفضيل أن يأمن من العذاب في قبره دل ذلك على حسن الخاتمة .

ثانيا: الموت في شرف المكان: كما أن الأزمنة تتفاضل فالأماكن تتفاضل، وهل يستوي من مات في موضع ذكر وعبادة وتبتل وإنابة بمن مات حيث يعصى الله تعالى أو مات في الأماكن المستقذرة؟ من هنا نجد أن العلماء عدوا الشهادة في ساحات المعارك أمارة بينة على حسن الخاتمة لأنه موطن صدق وتضحية وفداء للدين، قال الله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون*فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (آل عمران:169-170).

ثالثا: الموت في شرف الحال: والمقصود أن هناك أحوال معينة بينها الشرع وجعلها أمارة على حسن الخاتمة، منها: أن يرشح جبين المؤمن عند معالجته للسكرات، ودليله حديث بريدة بن الخصيب رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (موت المؤمن بعرق الجبين) رواه أصحاب السنن.

وقد اختلف العلماء في معنى الحديث، فذكر بعضهم أن المؤمن الذي يهون عليه الموت لا يجد من شدته إلا بقدر ما يفيض جبينه ويتفصد عرقا، بينما فسره آخرون بشدة الموت على المؤمن بحيث يعرق جبينه من الشدة لتمحيص ذنوبه أو لتزيد درجته، وقال آخرون: إن عرق الجبين إنما هو من الحياء؛ وذلك أن المؤمن إذا جاءته البشرى مع ما كان قد اقترف من الذنوب حصل له بذلك خجل واستحياء من الله تعالى فيعرق بذلك جبينه، وذكر الإمام العراقي أن عرق جبين المؤمن علامة جعلها الله سبحانه وتعالى لموت المؤمن وإن لم يعقل معناه.

وثمة أحوال معينة دلت السنة على تسمية أصحابها بالشهداء وإن لم يموتوا في ساحات الوغى، فكان موتهم على تلك الحال علامة على حسن خاتمتهم، وهم: من يموت غريقا، ومن يموت بداء السل أو بمرض في بطنه، والنفساء التي تموت حال ولادتها، ومن يموت حرقا، ومن يسقط عليه الهدم فيموت، ومن مات بالطاعون، والأدلة على ذلك أحاديث كثيرة نقتصر بذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟) قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فقال: (إن شهداء أمتي إذا لقليل)، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: (من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد) رواه مسلم، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ( الطاعون شهادة لكل مسلم) أخرجه البخاري، وحديث جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله عز وجل: المطعون شهيد، والمبطون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب الهدم شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، وصاحب الحرق شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة) رواه أصحاب السنن عدا الترمذي، وقوله : (والمرأة تموت بجمع) هو أن تموت وفي بطنها ولد. وأما السل فقد دل عليه حديث: (والسل شهادة) رواه الطبراني في المعجم الكبير.

رابعا: الخاتمة بالعمل الصالح: فمن أراد الله به خيرا ألهمه التوبة ولزوم الطاعات والإقبال عليه سبحانه وتعالى حتى تقبض روحه وهو على تلك الحال من الإقبال والمسارعة في الخيرات، وهو الأمر الذي جاء وصفه في السنة بأنه "استعمال للعبد في الخير" وجاء توضيحه في حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته) رواه الترمذي، وشبيه به قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أراد الله بعبد خيرا، عسله)، قيل: وما عسله؟ فقال: (يفتح الله له عملا صالحا قبل موته، ثم يقبضه عليه) رواه أحمد، وفي رواية ابن أبي شيبة: (يفتح به عمل صالح بين يدي موته؛ حتى يرضى من حوله)، والمعنى كما يذكر العلماء أن النبي عليه الصلاة والسلام شبه توفيق الله تعالى عبده للعمل الصالح قبل الموت بالعسل الذي يحلو به كل شيء ويصلح كل ما خالطه.

وأبرز الأعمال الصالحة وأشهرها أن يوفق العبد بنطق الشهادة قبل موته: فقد قال – صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود.

ومنها كذلك: أن يقتل دون دينه أو أهله أو ماله، أو لأجل كلمة حق عند سلطان جائر، وفيه حديث: (من قتل دون ماله فهو شهيد , ومن قتل دون أهله فهو شهيد , ومن قتل دون دينه فهو شهيد , ومن قتل دون دمه فهو شهيد) رواه أبو داود، وقوله عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) أخرجه الحاكم وحسنه الألباني.

ومثله الموت حال الرباط في سبيل الله دليل حسن الخاتمة، قال –صلى الله عليه وسلم-:(رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه , وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله , وأجرى عليه رزقه , وأمن الفتان) رواه مسلم.

وموت الصائم أو المتصدق من حسن خاتمة ففي الحديث الصحيح:(من صام يوما ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة , ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة) رواه أحمد.

خامسا: علامات بعد الموت: وهي الأمارات التي يستدل بها على حسن عاقبة المرء وتظهر بعد موته، ويأتي في مقدمها حسن ثناء الناس على الميت، وقد دعا إبراهيم عليه السلام ربه فقال: { واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء: 84)، وهو الذكر الجميل والثناء الحسن الباقي من بعده، وأيضا ثناء الناس بالخير على الميت من جمع من المسلمين الصادقين أقلهم اثنان، من جيرانه العارفين به من ذوي الصلاح والعلم من علامات حسن الخاتمة، دليله حديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر بجنازة فأثني عليها خيرا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (وجبت، وجبت، وجبت)، ومر بجنازة فأثني عليها شرا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (وجبت، وجبت، وجبت)، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة، فأثني عليها خير، فقلت: وجبت، وجبت، وجبت، ومر بجنازة، فأثني عليها شر، فقلت: وجبت، وجبت، وجبت؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض) رواه مسلم.

ومما يجدر ذكره هنا الكلام عن علامات حسنة تظهر بعد الموت قد لا تكون النصوص قد دلت عليها صراحة، لكن الواقع يشير إلى كونها كرامات من عند الله تبشر بحسن الخاتمة وتدل عليها، منها التبسم بعد الموت أو وضاءة الوجه، فالأحاديث لا تنص عليها كعلامات وإن كانت تفهم من قوله –صلى الله عليه وسلم-: (إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه ونفس الله عنه كربته) رواه أحمد، والكلمة هي شهادة التوحيد، فإشراق اللون قد يفهم منه العلامتين السابقتين.

ومن الكرامات التي قد تظهر على بعض العباد أن يموت وأصبعه يشير بالشهادة، ومنهم من يظل جرحه ينزف بعد موته بعدة أيام، ومنهم من تخرج من أكفانه الرائحة الزكية العطرة، ومنهم من يظل جسمه طريا كحاله يوم وفاته رغم تقادم موته، ومنهم من يخرج النور من قبره ومنهم من ترى له الرؤيا الصالحة، والواقع يشهد بكثير من هذه العلامات.

ونختم القول بأن إدراك تلك العلامات الدالة على حسن الخاتمة ورجاء الخير لصاحبها شيء، والجزم بأنه من أهل الجنة شيء آخر، فإننا لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلا من أخبر عنهم المصطفى –صلى الله عليه وسلم- بالنص، إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك على وجه الجزم إلا بالوحي، ولكنها مبشرات ودلالات يستأنس بها ويستبشر بوجودها.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة