علوم الحديث في القرن الثاني

0 2182

الدور الثاني من أدوار علوم الحديث هو دور التكامل ، ويمتد من مطلع القرن الثاني إلى أول الثالث ، وقد اكتملت علوم الحديث في هذا الدور ووجدت كلها واحدا واحدا ، وخضعت لقواعد تداولها العلماء وتعارفوا عليها ، وتميز هذا العصر بأمور أهمها :

1. ضعف ملكة الحفظ في الناس ، كما نص على ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ .

2. طول الأسانيد وتشعبها بسبب بعد العهد وكثرة حملة الحديث ، فقد حمل الحديث عن كل صحابي جماعات كثيرة تفرقوا في البلاد ، فكثرت الأحاديث ، ودخلتها القوادح الكثيرة ، والعلل الظاهرة والخفية .

3. كثرة الفرق المنحرفة عن جادة الصواب ، وعن المنهج الذي كان عليه الصحابة والتابعون بإحسان ، كالخوارج والرافضة والمعتزلة والجبرية وغيرهم .

ولذلك نهض أئمة الإسلام للتعامل مع هذه المتغيرات ، والتصدي لها ، ونتج عن ذلك ما يلي :

1. التدوين الرسمي : فقد أحس عمر بن عبد العزيز بالحاجة الملحة لحفظ السنة ، فكتب إلى الأمصار أن يكتبوا ما عندهم من الحديث ويدونوه حتى لا يضيع بعد ذلك ، أخرج البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم : انظر ما كان من الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فاكتبه ، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ، فكتب الزهري وأبو بكر بن عبد الرحمن وغيرهما ما في آفاقهم من الحديث .

ولم يلبث التدوين المبوب أن انتشر ، فجمعت الأحاديث في الجوامع والمصنفات ، كجامع معمر بن راشد (154) ، وجامع سفيان الثوري (161) ، وجامع سفيان بن عيينة (198) ، وكمصنف عبد الرزاق (211) ، ومصنف حماد بن سلمة (167) ، ووضع الإمام مالك كتابه (الموطأ) ، وهو أصح التآليف آنذاك ، لكن أحاديثه قليلة قدرت بخمسمائة حديث ، وقد ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين ، وقلده كثير من الناس حتى بلغت الموطآت الأربعين وعني مالك بانتقاء أحاديث الموطأ ، حتى قال الإمام الشافعي : ما على أديم الأرض بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك.

وقد أخرجوا في هذه التآليف الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع ، لأنهم قصدوا جمع الحديث للمحافظة عليه ، فلذلك توسعوا وذكروا في المسألة كل ما ورد ونقلوه بأسانيدهم إلى قائله .

2. توسع العلماء في الجرح والتعديل ونقد الرجال : لكثرة شيوع الضعف من جهة الحفظ ، ومن جهة انتشار الأهواء والبدع ، فتفرغ جماعة من الأئمة لنقد الرجال واشتهروا به ، كشعبة بن الحجاج (160) ، وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي (198) وغيرهم .

3. توقفوا في قبول الحديث ممن لم يعرف به : أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي الزناد قال : أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال: ليس من أهله .

4. تتبعوا الأحاديث لكشف خباياها : ووضعوا لكل صورة جديدة قاعدة تعرفها وتبين حكمها ، فتكاملت أنواع الحديث ، واتخذت اصطلاحاتها الخاصة بها ، ووجدت العناية بسبر الروايات وتتبعها لكشف علل الحديث ، وشهد هذا القرن نشاطا زائدا في الرحلة من أجل هذا الغرض ، حتى اعتبرت الرحلة من ضرورات التحصيل لطالب الحديث ، فلا تعلم محدثا له شأنه إلا وقد رحل في البلاد في طلب الحديث ، وأفاد العلماء من رحلاتهم هذه فوائد كثيرة ، حيث اطلعوا على ما نشره الصحابة في شتى الآفاق ، ووازنوا بين الأسانيد والمتون ، مما تفرع عنه كثير من الفوائد ، واحتل الرحالون في سبيل العلم مكانة مرموقة في المجتمع العلمي ، حتى صار لقب الرحال ، والرحالة ، والجوال ، وإليه كانت الرحلة .... شعارا على كبار المحدثين ، وطوف كثير منهم بالشرق وبالغرب أكثر من مرة ، وتناقل الناس أخبار رحلاتهم ، وما صادفهم من المشاق والعجائب بالإكبار والإجلال .

وكان الإمام الزهري أول من عني في هذا القرن بجمع الضوابط وإلقائها إلى الناس ، وأمر أتباعه بجمعها ، حتى عده البعض واضع علوم الحديث .

لكن تلك العلوم والضوابط التي وجدت حتى عصرهم ، كانت محفوظة في صدور الرجال لم يدون شيء منها في كتاب - فيما نعلم فضلا عن أن يجمعها ويضبط قواعدها مصنف خاص - اللهم إلا ما وجدنا للشافعي رحمه الله من فصول وأبحاث متفرقة لها أهميتها في هذا الفن .

فقد تكلم في الرسالة عن الحديث الذي يحتج به ، وشرط فيه شروط الصحيح ، وتكلم في شرط حفظ الراوي ، والرواية بالمعنى ، والمدلس وقبول حديثه ، كما أنه ذكر في " الأم " الحديث الحسن ، وتكلم في الحديث المرسل وناقش الاحتجاج به بقوة ، وبحث في غير ذلك من علوم الحديث ، فكان ما كتبه الشافعي أول ما بلغنا من علوم الحديث مدونا في كتاب .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة