السيرة النبوية والتدرج

0 1646

التدرج من سنن الله تعالى في خلقه وكونه ، قال الله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام }(الأعراف:54) ، وهو من السنن الهامة التي يجب على الأمة أن تراعيها وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين الله ، وقد شاء الله تعالى أن يكون التدرج سنة واضحة في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشريعته ، ومن أجل ذلك نزل القرآن منجما ، قال الله تعالى : { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا }(الإسراء:106) ، يقول الفخر الرازي : " لو أنزل الكتاب جملة واحدة لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق ، فكان يثقل عليهم ذلك ، أما لو نزل مفرقا منجما ، لا جرم نزلت التكاليف قليلا قليلا ، فكان تحملها أسهل " .

ومن أول من أشار إلى التدرج أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حيث تقول : ( إنما نزل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبدا ) رواه البخاري .
وقد بين ابن حجر في شرحه لهذا الحديث الحكمة من التدرج فقال : " أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب النزول ، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد ، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة ، وللكافر والعاصي بالنار ، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام ، ولهذا قالت : ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها ، وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف " .

والتدرج في سيرة وحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شمل العبادات كما هو الشأن في مختلف الأحكام والمعاملات ، فالصلاة بصورتها التامة والحالية اكتملت فريضتها ليلة الإسراء والمعراج في السنة الثانية قبل الهجرة ـ الحادية عشرة من البعثة ـ ، والصوم فرض بالمدينة ، وكذلك الزكاة والحج إلى بيت الله الحرام .
وفي غير العبادات طبق نظام المواريث في السنة الثالثة للهجرة ، أي بعد ستة عشر عاما من بدء الوحي ، والنظام الإسلامي للأسرة من الزواج والطلاق والنفقة وسائر أحكامها اكتمل تشريعه وتطبيقه في السنة السابعة للهجرة ، أي عبر عشرين عاما من بدء الوحي .

وقد تدرجت أحكام الخمر من الذم لها والتحذير منها إلى التحريم القاطع والنهائي لها في السنة الثامنة للهجرة ، أي في العام الواحد والعشرين من بدء الوحي ، قال الله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }(البقرة: من الآية219) ، ثم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون }(النساء: من الآية43) ، ثم قال : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }(المائدة:90) ..

وكان تحريم الربا في السنة التاسعة للهجرة ، وذلك بعد أن وجد في الواقع الإسلامي للمجتمع الجديد والأمة الوليدة اقتصاد إسلامي بديل حل محل الاقتصاد الجاهلي القديم ، فسنة التدرج مقررة في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتشريع الإسلامي بصورة واضحة ملموسة ، وهذا من تيسير الإسلام على البشر .

وهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبر ثلاثة عشر عاما في مكة على الأصنام ، فكان يصلي بالمسجد الحرام ، ويطوف بالكعبة وفيها وحولها ثلاثمائة وستون صنما ، بل وطاف في السنة السابعة من الهجرة مع أصحابه في عمرة القضاء ، وهو يراها ولا يمسها ، حتى أتى الوقت المناسب ، حين فتح الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة المكرمة وهو الفتح الأعظم ، الذي أعز الله به دينه ورسوله ، دخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسجد الحرام وحوله أصحابه ، فاستلم الحجر الأسود وطاف بالبيت ، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعن بعود تلك الآلهة المزيفة المنثورة حول الكعبة ، وهو يردد قول الله تعالى : { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا }(الإسراء:81) ، والأصنام تتساقط على وجهها على الأرض ، ونادى مناديه بمكة قائلا : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره ، فطهر الله جزيرة العرب من رجس الوثنية ، وهيمنة الأصنام والتماثيل .

وحينما أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسله وأصحابه للدعوة إلى الإسلام أمرهم أن يراعوا سنة التدرج في دعوتهم ، فيبدءوا بالدعوة إلى عقيدة التوحيد قبل كل شيء ، كما في قصة معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما بعثه إلى اليمن أوصاه قائلا : ( إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) رواه البخاري .

وأما في المدعوين أنفسهم فقد تدرجت دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ بدأ بمحيطه القريب زوجته خديجة ـ رضي الله عنه ، وصاحبه أبي بكر ، وابن عمه علي بن أبي طالب ، وغلامه زيد بن حارثة ، ثم اتسعت الدائرة لتشمل محيطا من أقاربه أوسع من ذي قبل عملا بقوله - عز وجل - : { وأنذر عشيرتك الأقربين }(الشعراء:214) .

وهناك أمور لم يفعلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مراعاة لهذه السنة ، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها : ( يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة ) رواه مسلم .
قال الحافظ ابن حجر : " لأن قريشا كانت تعظم الكعبة جدا ، فخشي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك ، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه " .
وقال الإمام النووي : " وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام ، منها : إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدء بالأهم ، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة ، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة من أسلم قريبا ، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيما ، فتركها ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".

إن مراعاة سنة التدرج كان أمرا واضحا في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومعلما من معالم الدعوة والتربية النبوية للصحابة في مكة والمدينة ، ولم يكن في أول الإسلام وفقط ، بل استمر بعد ظهوره أيضا بفترة , وتم تطبيقه في أمر الدعوة والجهاد ، وفي تحريم الخمر والربا ، وفي أمر الصلاة والزكاة ـ كما في حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ ، الذي يدل على التدرج في المراحل التي ينبغي أن يسلكها الدعاة في دعوة الناس ، وإقامة المجتمع الإسلامي .

وأول هذه المراحل ـ كما جاء في الحديث ـ الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ثم التدرج من الأهم إلى الأهم ، مع الوضع في الاعتبار أن ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر به على وجه اللزوم واجب التطبيق ، والتهاون فيه لا يليق بالمسلم أن يتصف به ، لكن هذا أمر ، والتدرج في إبلاغ الناس مبادئ الدين وسلوك المنهج المرحلي أمر آخر ـ مطلوب ـ ، وهو هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ . 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة