- اسم الكاتب:موقع : قصة الإسلام
- التصنيف:تاريخ و حضارة
لما جاء الإسلام، وأذن للمسلمين في الجهاد في سبيل الله، كان كل مسلم جنديا، وله من حبه لدينه ما يدفعه إلى المبادرة إلى الجهاد، والاستشهاد في سبيل الله التي جعل الله منزلتها أسمى المنازل.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد الأعلى لجيوش المسلمين، وبعد وفاته كانت الأحوال قد تطورت، وميادين القتال قد كثرت، وتعددت الجيوش في الأماكن المختلفة؛ فأصبح من العسير على الخليفة أن يقوم بمهمة القيادة بنفسه، فأسندها إلى من يصلح لها ممن عرف بالشجاعة، والحزم، وحسن التدبير. وقد كانت الطاعة واجبة لهؤلاء القواد، وكان القواد يعرضون الجند قبل لقاء العدو؛ حتى يطمئنوا عليهم وعلى عدتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومتى انتهى القتال أصبحت مهمة القائد النظر في أمر الجند، وتدريبهم، وتحسين معداتهم، والاستزادة منها .
وقد عني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأمر الجند، وأنشأ لهم ديوانا خاصا للإشراف على شئونهم، ومختلف أمورهم؛ من بيان أسمائهم، وأوصافهم، وأعمالهم، وأرزاقهم، وإليه أيضا يرجع الفضل في إقامة الحصون والمعسكرات الدائمة لإراحة الجنود في أثناء سيرهم إلى عدوهم؛ فبنيت الأمصار كالبصرة والكوفة والفسطاط؛ لإراحة الجند، وصد هجمات الأعداء.
وقد أتم الأمويون ما بدأه عمر -رضي الله عنه- من العناية بالجيش؛ فنظموا ديوان الجند، واعتنوا بالجيش، ولما استقر لهم الأمر نهائيا حين تقاعد كثير من المسلمين عن الحرب والجهاد، أدخل عبد الملك بن مروان نظام التجنيد الإجباري .
كما أرسى المسلمون تقاليد عسكرية، وابتكروا الكثير من فنون القتال، فلم يكن العرب في جاهليتهم يعرفون نظاما في الحرب، وكانوا يعتمدون طريقة الكر والفر، ولما جاء الإسلام ونزل قوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} رتب المسلمون الجيوش ونظموها، وخاصة حين اتسعت حركة الفتوح، والتقت جيوش المسلمين بجيوش لها تاريخ في التخطيط والتنظيم؛ مثل: الفرس، والروم.
فعرف المسلمون في تنظيم صفوفهم القتالية طريقة تعرف بالكراديس، وتعني: الكتائب أو الوحدات، وتقوم على تقسيم الجيش إلى خمس مجموعات رئيسية؛ هي: المقدمة، ثم الميمنة، والميسرة، وقلب في الوسط، ثم كتيبة في الخلف تعرف بالساقة أي المؤخرة.
وتعتبر اليرموك، والقادسية، وأجنادين من المواقع الحربية التي تعد مثالا لغيرها في تعبئة الجيوش وحسن قيادتها، وقد تأسى الحلفاء الأوربيون في الحرب العالمية الأولى بما صنعه خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة اليرموك من توحيد القيادة، واختيار الموقع المناسب للمعركة.
وقد استخدم المسلمون منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعرف بآلة "الدبابة"، وهي آلة تستخدم في ثقب حوائط الأماكن المحصنة وتدميرها؛ فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن "نفرا من الصحابة دخلوا تحت دبابة، ثم زحفوا ليحرقوا جدار أهل الطائف..." ، وكانت تصنع من الخشب بعكس المعنى المعروف لها اليوم.
واهتم الأمويون بصناعة المجانيق، حتى استطاع الحجاج بن يوسف الثقفي صنع منجنيق أسماه (العروس)، يحتاج إلى خمسمائة رجل لخدمته والعمل عليه، وقد سلم عددا من هذه المنجنيقات إلى ابن عمه المجاهد القائد محمد بن القاسم الثقفي، ففتح بها مدينة الديبل (كراتشي) عام 89هـ، وعدة مدن أخرى في وادي السند.
وقد استحدث الجيش الإسلامي فرقة تسمى بالنفاطة، وهم الذين يستخدمون النفط في الحرب من على أظهر الخيل، أو تعبئته ورميه في قارورات على العدو، وانتشرت هذه الفرقة منذ العصر العباسي، وكثر الاعتماد عليها في وقت الحروب الصليبية.
والعجيب أن الجيش الإسلامي أول من استخدم البارود، وقد عرفه المسلمون قبل الغربيين، وليس كما يزعم بعض المستشرقين، أن الأوربيين قد استخدموه في حروبهم وعرفوه قبل المسلمين، فقد تم استعماله لأول مرة في مصر؛ وذلك لتوافر مادة النطرون بكثرة فيها، وذكر المقريزي في حوادث عام 727هـ أن البارود قد استعمل بجوار النفط في حفل زفاف ابنة سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون، فقال: "وعمل في القلعة برجا من بارود ونفط".
والظاهر أن المسلمين قد عرفوه قبل ذلك التاريخ بمدة كافية، فقد ذكر ابن خلدون أن المرينيين في المغرب استخدموه في حروبهم، خاصة في فتحهم لمدينة سجلماسة، فذكر أن سلطانهم يعقوب بن عبد الحق قد نصب على المدينة "هندام النفط القاذف بحصى الحديد، ينبعث من خزانة أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة بارئها!"؛ وكانت هذه الحادثة عام 672هـ، مما يبدو أن المسلمين قد عرفوا "المدفع" في حروبهم -كما يذكر ابن خلدون هنا- منذ القرن السابع الهجري، فاستخدموا حصى الحديد (القنابل الصغيرة)، التي كانت تنطلق بقوة البارود المفزعة؛ ولذلك تعجب ابن خلدون من هذه القوة، وهو ما يبدو في وصفه السابق.
واستخدم المماليك المدافع بكثرة في حروبهم، وجعلوا منها أنواعا متعددة؛ فمنها المدفع أو المكحل الكبير، ومنها المدفع الصغير، وقد وصف لنا القلقشندي في "صبح الأعشى" مكاحل البارود، فقال: "وهي المدافع التي يرمى عنها بالنفط، وحالها مختلف، فبعضها يرمى عنه بأسهم عظام، تكاد تخرق الحجر ببندق، وبعضها يرمي عنه من حديد من زنة عشرة أرطال بالمصري إلى ما يزيد على مائة رطل، وقد رأيت بالإسكندرية في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين في نيابة الأمير صلاح الدين بن عرام رحمه الله، بها مدفعا قد صنع من نحاس ورصاص، وقيد بأطراف الحديد، رمي عنه من الميدان ببندقة من حديد عظيمة محماة، فوقعت في بحر السلسلة خارج باب البحر وهي مسافة بعيدة".
واللافت أن الحضارة الإسلامية امتازت بالجانب التخصصي منذ بداياتها؛ ففي مكتبات العالم ودور كتبه لا تزال المخطوطات الإسلامية التي تتناول الحديث عن العسكرية الإسلامية وأبوابها وإستراتيجياتها والتسليح والتعبئة والإمداد والتخطيط وتطور المفاهيم بل والجانب الأخلاقي، والعقيدة العسكرية الإسلامية لا تزال تحتاج من الباحثين والمحققين إلى جهد كبير.
وإن البحوث الجادة والتحقيقات النافعة التي بذلها اللواء العراقي محمود شيت خطاب -رحمه الله- باهتمامه في هذا الجانب المعتم في حضارتنا ليستحق عليه منا الدعاء الكثير، وثمة عمل مهم قام بتحقيقه رحمه الله، هذا العمل هو تحقيقه لمخطوط من العصر المملوكي بعنوان (الأدلة الرسمية في التعابي الحربية) ومؤلفه أحد نقباء الجيش المصري وأمرائه في عصر السلطان الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون (ت 778هـ)، واسمه محمد بن محمود منكلي.
يقول شيت خطاب عن هذا الكتاب: "استمتعت كثيرا بقراءة هذا الكتاب وتحقيقه؛ لأنني استفدت منه شخصيا معلومات عسكرية جديدة، لعل أهمها ما يمكن أن نطلق عليه: السجية العسكرية أو الأخلاق العسكرية؛ ولأنني اكتشفت أن أجدادنا الغر الميامين كانوا علماء من الطراز الأول في العلوم العسكرية؛ ولأن هذا الكتاب وغيره من التراث العربي الإسلامي في العسكرية قدم الجواب الشافي عن تساؤلي: كيف انتصر أجدادنا على أعدائهم الكثيرين؟ لقد كنت أظن أن أجدادنا انتصروا بعقيدتهم أولا؛ العقيدة المنشئة البناة التي ذاد عنها حماة قادرون، وقد تعلمت من هذا الكتاب وغيره من كتب التراث العسكري، أن أجدادنا كانوا علماء حقا في العسكرية، فكان انتصارهم بعقيدتهم الراسخة، وقيادتهم المحنكة، وعلمهم المتين".
وبعد، فهذه صورة مبسطة لطبيعة العسكرية الإسلامية في الحضارة الإسلامية، اكتشفنا فيها الجدة التي أضافوها على هذا الجانب المهم منذ فجر الحضارة، والمهارات التي منحتهم الحافز والقوة للفتوحات التي امتدت من فرنسا للصين ومن روسيا لعمان، بجانب القواعد الأخلاقية والروحية التي امتازت بها حضارة الإسلام على حضارات العالمين.