تزيين الباطل..

6 1012

النفوس السوية القويمة والفطر السليمة المستقيمة تستحسن الحسن وتستقبح القبيح؛ فإن الباطل صورته مزرية مستنكرة، وسيمه وقحة منفرة، والحق أبلج والباطل لجلج ؛ولذلك ذهب من ذهب من المعتزلة ومن وافقهم إلى أن الحسن والقبح عقليان لا شرعيان لأن العقول تميز بين الحق والباطل، وعلى ما في هذا الكلام من مؤاخذات، لكنه يدل على أن الباطل ظاهر قبحه وأنه لو ترك على حاله لكان على أصحاب العقول اجتنابه.
 
ولذلك يأتي الشيطان إلى هذا الباطل فيقلبه عن حاله ويصوره في صورة حسنة: إما بمسخ الفطر، وإما بتزيين صورة الباطل.. فيلبس القبيح رداء حسنا ويغطيه بغطاء جميل ويزينه ويحسنه ثم يبدأ في إغواء الناس ودعوتهم إليه، كما أخبر هو عن نفسه فقال: (لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) فجعل التزيين أولا ثم الدعوة إليه والإغواء به بعد ذلك.

يقول ابن القيم:
ومن مكايده: أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وينفره من الفعل الذي هو من أنفع الأشياء حتى يخيل إليه أنه يضره.
فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة و سلك بهم من سبل الضلال كل مسلك وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك.

وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ووأد البنات، ونكاح الأمهات، ووعدهم بعد الكفر والفسوق والعصيان بالفوز بالجنان، وأبرز لهم الشرك في صورة التعظيم، والكفر بصفات الرب وعلوه وتكلمه بكتبه في صورة التنزيه، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس، وحسن الخلق معهم عملا بقوله "عليكم أنفسكم" (إغاثة اللهفان1/119).

فلا إله إلا الله كم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حال بين قلبه وبين الإسلام والإيمان والإحسان، وكم جلى الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة وكم شنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة. وكم بهرج من الزيوف على الناقدين وكم روج من الزغل على العارفين. فكم ساقط في حباله من صاحب هوى أضله هواه وأعماه، وصاحب بدعة حسن له بدعته حتى أبعده عن الحق وأغواه، ومتعبد زين له طريقته الفاسدة فأخرجه عن نور الاتباع وهداه، فصادهم جميعا في شركه، وأوقعهم في دركه ثم هو يوم القيامة يتبرأ من الجميع، (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم).

وقد استعان على ذلك بإظهار النصح وأنه إنما يريد الخير للمرء كما فعل مع آدم، (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين).

تسمية المعاصي بغير اسمها
فمن صور تزيينه للباطل: تسمية الفواحش والقبائح والمعاصي بأسماء محببة إلى النفوس حتى تقبل عليها وحتى يخفى خبثها وفحشها (وهو ما يمكن أن نسميه بحرب المصطلحات).

وهذه الصورة من صور المكر بدأت مبكرة جدا حينما قال إمام الضلالة إبليس عن شجرة آدم أنها شجرة الخلد، (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى).

قال ابن القيم: "وقد ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها فسموا الخمر بأم الأفراح......." ( إغاثة 1/112).
فهم الذين يسمون الربا بالفائدة، ويسمون التبرج الفاضح بحرية المرأة، ويسمون الاختلاط تقدما ومدنية، ويسمون أهل الفسق والفجور بأهل الفن والخليعات فنانات، والممثلين واللاعبين أبطالا وبطلات.. كل هذا ليجذبوا قلوب الناس إلى فحشهم وخبثهم. ومنه تسمية كثير من الزنادقة المارقين مفكرين ومثقفين. وسب الله ورسوله يسمونه إبداعا وحرية فكر..

التنفير من الحق
الحق عليه مسحة من نور وإشراقة ضياء لو بقيت دون تشويه لتهافتت إليه النفوس وأصغت له الأسماع وركنت إليه القلوب ولذلك كان من سبل الشيطان في إغواء الناس تشويه الحق وتقبيح صورته فسلك لذلك سبلا وكما سمى الباطل بغير اسمه يزينه للناس كذلك حمل أولياءه على تسمية الحق بغير اسمه يقبحه إليهم.
فقالوا في نوح: {إن هو إلا رجل به جنة}.
وقالوا في هود: {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين}.
وقالوا في صالح: {إنما أنت من المسحرين}.
وقالوا في شعيب: {لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون}.
وقالوا في محمد: {إن تتبعون إلا رجلا مسحورا}.

وهكذا وعلى هذا النمط يستمر وحي الشيطان لأوليائه، الأصل واحد وإن اختلفت المسميات.
فيسمون المتمسكين بهدي النبي متطرفين متعصبين أصوليين وإرهابيين ورجعيين...

وجعلوا البعد عن المعاصي تزمتا وانغلاقا، والحجاب خيمة ورجعية وتخلفا، وتستمر هذه الملحمة حتى تقوم الساعة. (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون).
لا تغمزونا يا خفافيش الدجى .. .. بتـطــرف وتســـرع وتــشدد
لا تقــذفونا بالشـــذوذ فإنــــنا .. .. سرنا على نهج الخليل محمد

فينبغي على المسلمين أن ينتبهوا لهذا النهج من الشيطان وأتباعه، فإنها وسيلة من وسائل الصد عن سبيل الله، إنما تقابل بالحجة والبيان وإظهار الحق وفضح الباطل، مع الصبر على ذلك فهو نوع من البلاء (ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة