عبد الله بن المبارك .. المحدث المجاهد

2 1689

ولد شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم التركي ثم المروزي بمدينة مرو - من أعمال خراسان - سنة 118هـ، وكانت نشأته بها، ثم ارتحل إلى الحرمين والشام ومصر والعراق والجزيرة العربية.

كان أبوه يعمل في بستان لدى قاض يدعى نوح بن مريم، وكان لهذا القاضي بنت ذات جمال خطبها جماعة من الأعيان والأكابر فلم يزوجها، فذهب يوما إلى البستان فطلب من غلامه شيئا من العنب، فأتى بعنب حامض، فقال له: هات عنبا حلوا فأتى بحامض، فقال القاضي: ويحك ما تعرف الحلو من الحامض، فقال: بلى، ولكنك أمرتني بحفظها وما أمرتني بالأكل منها، ومن لا يأكل لا يعرف، فتعجب القاضي من كلامه وقال: حفظ الله عليك أمانتك، وزوج منه ابنته، فولدت عبد الله بن المبارك المشهور بالعلم والجهاد والورع.

طلبه للعلم

بدأ طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، وكان أول شيخ لقيه هو الربيع بن أنس الخراساني، تحيل ودخل إليه إلى السجن، فسمع منه نحوا من أربعين حديثا، ثم ارتحل سنة إحدى وأربعين ومائة، وأخذ عن بقايا التابعين كحميد الطويل وهشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش وحنظلة السدوسي، ومن بعدهم كحيوة بن شريح المصري والأوزاعي وأبي حنيفة ومعمر والثوري وشعبة ومالك والليث وابن لهيعة.

وقد حدث عنه جمع كبير من الأئمة والمحدثين، منهم: سفيان الثوري وابن وهب وابن مهدي وأبو داود وابن معين وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وعلي بن حجر ويعقوب الدورقي، وأمم يتعذر إحصاؤهم ويشق استقصاؤهم.

كان غنيا يبلغ رأس ماله نحوا من أربعمائة ألف درهم، أنفق معظمه في الجهاد والحج وكفالة طلابه، حيث كان يحج سنة ويغزو في السنة الأخرى.

كان ينشد العلم حيث رآه، ويأخذه حيث وجده، لا يمنعه من ذلك مانع، فقد كتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وتجاوز ذلك حتى كتب العلم عمن هو أصغر منه، وصنف التصانيف النافعة الكثيرة، وأكثر من الترحال والتطواف إلى أن مات في طلب العلم والغزو والتجارة والإنفاق على الإخوان في الله، وتجهيزهم معه إلى الحج.

عابه قومه على كثرة طلبه للحديث فقالوا: إلى متى تسمع؟ فقال: "إلى الممات"، وكان يقول: "رب عمل صغير تكبره النية، ورب عمل كبير تصغره النية"، وقال أيضا: "إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن".

كان يكتب الشعر ويجيده، ومن أشهر ما كتب، تلك الرسالة التي بعث بها إلى الفضيل بن عياض يعاتبه فيها على عدم الخروج إلى الغزو، حيث يقول فيها:

يا عابد الحرمين لو أبصرتـنا *** لعلمت أنك بالعبــادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه *** فنحورنا بدمــائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطـل *** فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

مناقبه وثناء الأئمة عليه:

كان إماما عالما حافظا غازيا، نعته الإمام الذهبي في السير بـ" الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه، وأمير الاتقياء في وقته "، وقال عنه الإمام أبو عمر بن عبد البر: "أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله".

وقال العباس بن مصعب: "جمع عبد الله الحديث والفقه والعربية وأيام الناس، والشجاعة والسخاء والتجارة ومحبة الفرق له"، وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل: "لم يكن في زمانه مثله، ولا أطلب منه للعلم".

يقول سفيان الثوري: "إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام".

وقال إسماعيل بن عياش: "ما على وجه الأرض مثله، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، ولقد حدثنى أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم، وقدم مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وازدحموا حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك، فقالت: ما للناس؟ فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له عبد الله بن المبارك فانجفل الناس إليه، فقالت المرأة: هذا هو الملك لا ملك هارون الرشيد".

وقفات مع سيرته:

أهم ما يمكن أن نقف عليه في حياة الإمام عبد الله بن المبارك - رحمه الله - :

- جهاده وشجاعته وبذله للمال في الجهاد: كان من كبار المجاهدين الشجعان، يقول عبدة بن سليمان المروزي: "كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، ولما التقى الجمعان خرج رجل للمبارزة فبرز إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة ثم طعنه فقتله، فازدحم الناس فزاحمت فإذا هو ملثم وجهه، فأخذت بطرف ثوبه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا".

ويقول عبد الله بن سنان: "كنت مع ابن المبارك والمعتمر بن سليمان بطرسوس، فصاح الناس النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف المسلمون والعدو خرج رومي وطلب البراز فخرج إليه رجل، فشد العلج على المسلم فقتله، حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك وقال: يا فلان إن حدث بي الموت فافعل كذا وكذا، وحرك دابته وبرز للعلج فعالج معه ساعة فقتله، وطلب المبارزة فبرز إليه علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج وطلب البراز، قال: فكأنهم كاعوا عنه، فضرب دابته وطرد بين الصفين وغاب، فلم نشعر بشيء إذ أنا بابن المبارك في الموضع الذي كان، فقال لي: يا أبا عبد الله لئن حدثت بهذا أحدا وأنا حي، وذكر كلمة".

- خوفه وخشيته: عرف بشدة خوفه من الله وخشيته له، يقول نعيم بن حماد: "كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء، لا يجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه"، وكان يقول: "إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يدرى ما فيه من الهلكة، وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت يراها هدى، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر".

- عبادته وعلمه: كان عالما عابدا يحج عاما ويغزو عاما، اجتمعت فيه خصال الخير والصلاح، يقول الحسن بن عيسى: "اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك مثل الفضل بن موسى ومخلد بن حسين ومحمد بن النضر، فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه".

وفاته:

توفي الإمام عبد الله بن المبارك الحنظلي بمدينة هيت بالأنبار - غرب العراق - سنة إحدى وثمانين ومائة من الهجرة النبوية الشريفة، عن ثلاث وستين سنة، ولما بلغ هارون الرشيد موته قال: مات سيد العلماء، رحمه الله رحمة واسعة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة