بيعة الرضوان

3 1999

القارئ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتاريخ دعوة الإسلام يجد ارتباطا وثيقا بين أحداثها ومجرياتها، وخير ما يشهد لهذه المقولة بيعة الرضوان، إذ كانت ذات علاقة وثيقة بصلح الحديبية، وربما كانت سببا مباشرا لهذا الصلح، الذي كان خيرا للمسلمين، وفتحا مبينا للجماعة المؤمنة. وفيما يلي شيء من تفصيل مجريات وملابسات بيعة الرضوان، ذلك الحدث الجلل في حياة الدعوة الإسلامية وتاريخها المجيد .  

ذلك أنه لما استقر أمر المسلمين بالمدينة، وأسسوا دولتهم الفتية، وأخذت الأمور تسير إلى حد كبير لصالحهم، بدأت طلائع الفتح الإسلامي، ورايات الدعوة الإسلامية تبدو شيئا فشيئا، وبدأت التمهيدات والاستعدادات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام ‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام، وهو بالمدينة، أنه داخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وآخذ مفتاح الكعبة، وطائف بالبيت العتيق. فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا بهذه الرؤية فرحا شديدا، وتشوقت نفوسهم لتلك الساعة، وحسبوا أنهم داخلو مكة خلال وقت ليس بالبعيد ‏.‏

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى إثر تلك الرؤيا المبشرة، أخبر أصحابه أنه معتمر، وطلب منهم أن يأخذوا أهبة السفر، فتجهزوا لما أمرهم به، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم‏ .‏ وخرج قاصدا مكة غرة ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، وصحبته في هذا السفر زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وكان عدد الذين خرجوا معه يريدون مكة قد قاربوا ألفا وأربعمائة رجل، ولم يخرج معه أحد بسلاح المعركة، بل خرج الجميع بسلاح المسافر‏ فحسب ‏.

وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم قد عقدت جلسة طارئة، لبحث الموقف وتداعياته، وخرجت من تلك الجلسة بقرار جماعي، حاصله صد المسلمين عن البيت الحرام كيفما كان، ومهما كلفها ذلك من ثمن .

ثم إن قريشا بدأت خطواتها التنفيذية، وإجراءاتها العملية لمواجهة الموقف؛ بإرسال الرسل للمفاوضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن تثمر تلك المفاوضات عن ثنيه عن عزمه وقصده من دخول البيت الحرام .   

ولما رأى شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في الصلح، فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، وأخذوا زمام المبادرة، إذ إن الموقف - حسب منطق هؤلاء - لم يكن يحتمل المفاوضة، ولا يتسع للأخذ والمناورة، فقرروا - حسما للموقف - أن يخرجوا ليلا، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثا تشعل نار الحرب، وتؤجج سعير المعركة. وفعلا قاموا بتنفيذ هذا القرار، واتخذوا خطوات عملية وميدانية في هذه الاتجاه، فخرج منهم سبعون أو ثمانون رجلا ليلا، وهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين .

بيد أن عيون المسلمين كانت لهم بالمرصاد، فحالما تسلل أولئك النفر إلى المكان الذي كان ينـزل فيه المسلمون اعتقلوا جميعا، وفشلت محاولتهم التي كانوا يرمون إليها، وأخذوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرر في أمرهم ما يراه مناسبا للموقف ‏.‏

ورغبة منه صلى الله عليه وسلم في الصلح، وتمشيا مع القصد الذي خرج صلى الله عليه وسلم لأجله، فقد أطلـق سراحهم وعفا عنـهم، وفي ذلك أنزل الله‏ قوله الكريم:‏ ‏{ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ‏}‏ (‏الفتح‏:24) . ‏

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبلغ قريشا موقفه وهدفه وغايته من هذا السفر؛ فعزم على أن يبعث إليها سفيرا يؤكد لها موقفه ذلك، فانتدب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليرسله إليهم، فاعتذر عمر رضي الله عنه قائلا‏:‏ يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب ، يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت. فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه، وأرسله إلى قريش، وقال‏:‏ أخبرهم أنا لم نأت لقتال وحرب، وإنما جئنا عمارا - أي: نبتغي العمرة - وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان ‏.‏

فانطلق عثمان رضي الله عنه لما وجهه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى قريشا، وبلغ زعماءها الرسالة التي حمله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من إبلاغ رسالته، عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا العرض، وأبي أن يطوف إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ .‏

فلما رأت قريش هذا الموقف من عثمان رضي الله عنه، وهو موقف لم يرق لها بحال، لجأت إلى أسلوب الضغط والتهديد، فاحتبست عثمان عندها - ولعلها أرادت من وراء هذه الخطوة، أن تتشاور فيما بينها في الوضع الراهن، وتبرم أمرها. أو لعلها أرادت أن تتخذ من عملية اعتقال عثمان رضي الله عنه ورقة ضغط في وجه المسلمين - وأشاعت خبر ذلك بين المسلمين، وطال احتباس عثمان رضي الله عنه، حتى شاع بين المسلمين أنه قتل. فلم بلغ خبر تلك الإشاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏( ‏لا نبرح حتى نناجز القوم ‏)‏ ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال‏:‏ ‏(‏ هذه عن عثمان ‏)‏‏.‏ ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له‏:‏ جد بن قيس .

وقد ذكر القرآن الكريم خبر هذه البيعة، ومدح أصحابها، ورضا الله عنهم، قال تعالى في ذلك: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } (الفتح:18) ولأجل ما ذكر الله، سميت هذه البيعة ( بيعة الرضوان ) وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة من صحابته رضوان الله عليهم تحت شجرة، وكان عمر رضي الله عنه آخذا بيده، و معقل بن يسار آخذا بغصن الشجرة، يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد ذكرت كتب السيرة خبر هذه البيعة بطرق متعددة، وبألفاظ متقاربة؛ من ذلك ما رواه الطبري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: بينما نحن قافلون من الحديبية، نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البيعة البيعة ! نزل روح القدس. قال: فسرنا إلى رسول الله، وهو تحت شجرة سمرة، قال: فبايعناه، قال: وذلك قول الله تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } فأخبر سبحانه نبيه أنه قد رضي عن أصحابك المؤمنين، لمبايعتهم إياك على الجهاد، ومواجهة قريش في موقفها العنيد، وعلى أن لا يفروا ولا يولوهم الأدبار، مهما كلفهم ذلك من التضحيات .

وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجل يقال له أبو سنان ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أبسط يديك حتى أبايعك، فقال: على ماذا، قال: على ما في نفسك، قال: وما في نفسي، قال: الفتح أو الشهادة. فبايعه، وكان الناس يجيئون فيقولون: نبايع على بيعة أبي سنان .

قال ابن اسحاق صاحب السيرة: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها، إلا الجد بن قيس ، أخو بني سلمة، قال: كان جابر بن عبد الله رضي الله عنه، يقول: لكأني أنظر إليه، لاصقا بإبط ناقته، قد ضبأ ( أي: لصق بها واختبأ ) إليها، يستتر بها من الناس .

ولما تمت البيعة المرضية، رجع عثمان رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعضهم: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟ فقال: بئس ما ظننتم بي، والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها، حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا .

وقد ثبت في صحيح الحديث - ناهيك على ما جاء في القرآن - الشهادة بالجنة لجميع من شهد بيعة الرضوان عام الحديبية؛ فعن أم مبشر رضي الله عنها: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها: ( لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها ، قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة : { وإن منكم إلا واردها } (مريم:71) فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله عز وجل: { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } (مريم:72) رواه مسلم ، وفي "سنن" أبي داود : ( لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة ) وفي "المصنف" ل ابن أبي شيبة ،قال: السابقون الأولون، من أدرك بيعة الرضوان. وقد وعد سبحانه هؤلاء بالجنة، قال الله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } (التوبة:100) .

وعلى العموم، فإن وقائع هذه البيعة تفيد العديد من العبر، ويستنتج منها الكثير من الفوائد، وهاك بعضا من ذلك:

- صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وصدق بصائرهم, وأنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء لله; إذ من غير الجائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم، إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة، وصدق الإيمان, وقد أكد ذلك المعنى سبحانه، بقوله: { فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم } (الفتح:18) وهذا يدل دلالة واضحة على أن التوفيق والتسديد والتأييد مصاحب وملازم لمن صدق النية مع الله, وهذا الملحظ في معنى قوله تعالى: { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } (النساء:35) .

- كانت تلك البيعة مقدمة وتمهيدا وسببا مباشرا لإبرام صلح الحديبية، ذلك الصلح الذي كان فتحا مبينا، وكسبا عظيما للمسلمين. فعندما علمت قريش بتلك البيعة، ومدى صلابة المسلمين في موقفهم، وقوتهم، وصبرهم، وثباتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمت أن ذلك هو الحق، فأرسلت إلى المسلمين فريقا للتفاوض معهم، وإبرام الصلح .

- ومما يستفاد من هذه الحادثة قوة العلاقة والترابط والتلاحم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ إذ إنهم بايعوه على الثبات والمصابرة وعدم التولي، ومواجهة الموقف بكل ما يقتضيه من إيمان وإخلاص؛ يتجلى ذلك في سرعة استجابة الصحابة لما دعاهم إليه رسول الله، ومسارعتهم لتلبية متطلبات ومستحقات الإيمان بالله، وبرسالة نبيه عليه الصلاة والسلام، إذ إن الصدق في الإيمان سبيل إلى تحصيل رضا الرحمن أولا، وهو طريق أيضا لحصول نصره وتأييده { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } (الحج:40) .

- على أن من الدلالات المهمة في هذه البيعة، والتي تدل على كل ما سبق وتدعمه، ما يستفاد من مواقف الصحابة رضوان الله عليهم من رسولهم صلى الله عليه وسلم، فيما ذكره أصحاب السير من أن عروة - وهو أحد أعضاء وفد قريش، الذين ذهبوا للمفاوضة والمصالحة - وكان قد رجع إلى أصحابه يصف لهم ما رأى، قال: أي قوم !! والله لقد وفدت على الملوك، على كسرى و قيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه، ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة، إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. وفي فعل الصحابة هذا على ما وصف عروة ما يدل على أنه لا إيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم دون محبة له، وأن هذه المحبة ليست معنى عقلانيا مجردا، وإنما هي أثر ملموس، وسلوك مشهود، يستحوذ على القلب، فيطبع صاحبه، بمثل الطابع الذي وصف به عروة بن مسعود أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .    

ومما يتصل بهذا الحدث، ويحمل من الدلالة ما يحمل، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في "الصحيحين" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ( أنتم خير أهل الأرض ) قال جابر - وكان قد كف بصره -: ولو كنت أبصر اليوم، لأريتكم مكان الشجرة .

وقد قطعت هذه الشجرة ونسي مكانها، وكان في ذلك خير للمسلمين؛ إذ لو بقيت إلى اليوم، لشدت إليها الرحال، ولضربت عليها القباب، ولظن الناس فيها الظنونا، ولربما كانت قبلة لبعض الجهال، ولكن الله { غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة