بيان السنة للقرآن - تقييد المطلق

1 2234

جاءت السنة النبوية مفصلة وموضحة لآيات عديدة من القرآن الكريم؛ ومن ذلك تقييد بعض مطلق القرآن، واللفظ (المطلق) هو ما دل على شائع في جنسه، أو هو اللفظ الدال على فرد أو أفراد غير معينة، ودون أي قيد لفظي، مثل: رجل، ورجال، وكتاب، ورقبة، وهو ورود النكرة في صيغة الإثبات.

وحتى يتضح ذلك نذكر قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} (المائدة: 89)، فهذه الآية جاء فيها هذان اللفظان: "مساكين - رقبة"، وجاء هذان اللفظان نكرتين في سياق إثبات فيفيدان الإطلاق، فإطعامك المسكين هنا يجزئ فيه أي مسكين، رجلا كان أو امرأة، حرا كان أو عبدا، كما أن عتقك الرقبة أيضا يجزئ فيها أي رقبة، ذكرا كان أو أنثى، مسلما كان أو كافرا.

هذا الإطلاق غير موجود في قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء: 92)، فلا تجزئ الرقبة الكافرة؛ لأن الله تعالى قيدها بالإيمان، بخلاف كفارة اليمين، فيجزئ فيها أي رقبة، مؤمنة كانت أو كافرة؛ لإطلاق اللفظ.

ومن الأمثلة الواردة في القرآن الكريم لألفاظ مطلقة عن القيود والأوصاف، قيدتها السنة الشريفة ما يلي:

المثال الأول: قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (المائدة:38)، فـ (اليد) في الآية مطلقة غير مقيدة، بكونها اليمين أو الشمال، فجاءت السنة النبوية وقيدت لفظ (اليد) المطلق، بكون اليد المقطوعة هي اليد اليمنى، وبيان أن القطع من الكوع، فقد روى الشافعي في "مسنده" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق: (إن سرق فاقطعوا يده, ثم إن سرق فاقطعوا رجله, ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله)، وفي كتاب "الحدود" لأبي الشيخ من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون من المفصل.

المثال الثاني: قوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} (النساء:11) فلفظ الوصية الوارد في الآية مطلق غير مقيد بمقدار معين، فبينت السنة النبوية أن مقدار الوصية هو الثلث أو أقل، فلا يجوز إخراج الوصية بأكثر من ثلث المال الذي تركه الميت، والحديث الذي قيد مطلق الوصية هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة وسأله عن الوصية: (الثلث، والثلث كثير) رواه البخاري.

المثال الثالث: قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (البقرة:196)، أطلقت الفدية في تلك الآية، وقيدها حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه حين أتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فرأى القمل يمشي على وجهه، فقال: (ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى، تجد شاة؟ فقلت: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) رواه البخاري، فجعل الصيام مقيدا بثلاثة أيام، والإطعام والصدقة مقيدة بستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وقيد الهدي بشاة.

المثال الرابع: قوله تعالى في صفة الوضوء: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (المائدة:6)، قيده فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين بدلا من غسل الرجلين، كما في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته في غزوة تبوك، فذهبت معه بماء، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكبت عليه الماء فغسل وجهه، ثم ذهب يخرج يديه من كمي جبته فلم يستطع من ضيق كمي الجبة، فأخرجهما من تحت الجبة فغسل يديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين" رواه مسلم.

المثال الخامس: قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} (النساء:24)، لكن الحل في هذه الآية الكريمة مقيد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) متفق عليه، وقد يعد هذا تخصيصا للعموم.

هذه الأمثلة وغيرها تؤكد أن السنة جاءت بتقييد بعض ما أطلقه القرآن من الألفاظ؛ ولذا لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال، لأهميتها العظمى في فهم دين الله تعالى والعمل به.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة