- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:من تبوك إلى الوفاة
لما أكمل الله الدين وأتم النعمة على المسلمين، واستقر الأمر لدولتهم، أجرى الله على نبيه صلى الله عليه وسلم سنته الماضية في خلقه: { كل نفس ذائقة الموت } (آل عمران: 185)، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يودع الحياة بأقوال وأفعال دالة على ذلك .
عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط (شفيع)، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها . قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري .
وعن جابر رضي الله عنه قال: ( أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وعليه السكينة وأمرنا بالسكينة، ثم قال: خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) رواه النسائي .
رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع في ذي الحجة، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفرا من العام العاشر، فبدأ بتجهيز جيش أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما، وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة ابتدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرضه الذي قبضه الله فيه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه، قال: بل أنا وارأساه . قال: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك، قلت: لكني أو لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه ) رواه أحمد .
قال الحافظ ابن رجب: " كان ابتداء مرضه - صلى الله عليه وسلم - في أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما على المشهور " .
وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول: ( ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع (المرض) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) رواه مسلم .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها ) رواه البخاري .
مكث النبي صلى الله عليه وسلم أياما والمرض لا يفارقه، لكنه يخرج للصلاة، ويعود إلى فراشه، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس، فاتبعته حتى قام على المنبر، فقال: إني الساعة قائم على الحوض، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة، فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي وأمي بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، قال: ثم هبط من المنبر فما رئي عليه حتى الساعة ) رواه ابن حبان .
وقبل الوفاة بخمسة أيام اشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأن يحضروا أدوات الكتابة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا . قال عبيد الله (الراوي):فكان ابن عباس يقول: إن الرزية (المصيبة) كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لاختلافهم ولغطهم ) رواه البخاري .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى بالناس مغرب هذا اليوم وقرأ بالمرسلات، فعن أم الفضل بنت الحارث قالت: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله ) رواه البخاري .
وعند العشاء اشتد المرض عليه صلى الله عليه وسلم بحيث لم يستطع الخروج، وكان صلى الله عليه وسلم قد استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذن له .
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ( دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس؟، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب (إناء)، قلت: ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء (يقوم) فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلي الناس؟، قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر- وكان رجلا رقيقا ـ: يا عمر صل بالناس، فقال عمر: أنت أحق بذلك، فصلى بهم أبو بكر في تلك الأيام، ثم إن رسول الله وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين ـ أحدهما العباس ـ لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد . قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم؟، قال: هات، فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئا، غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟، قلت: لا، قال: هو علي ) رواه البخاري .
ازدادت شدة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يغمى عليه في اليوم الواحد مرات عديدة، وقبل أن يفارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا أوصى بالأنصار خيرا، وأمر بإحسان الظن بالله، قال جابر رضي الله عنه: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: أحسنوا الظن بالله عز وجل ) رواه مسلم .
كما أوصاهم صلى الله عليه وسلم بالصلاة وما ملكت أيمانهم، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه ) رواه أحمد .
وأمرهم صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين من جزيرة العرب، ونهاهم عن اتخاذ القبور مساجد، وكان يقول : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . تقول عائشة: يحذر مثل الذي صنعوا ) رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر: " وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم " .
وأعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه في اليوم السابق لوفاته ، وتصدق بما كان معه من دنانير، وقال: ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وما تركنا صدقة ) رواه البخاري .
وبدأت ساعة احتضاره صلى الله عليه وسلم فأسندته عائشة رضي الله عنها إلى صدرها وكانت تقول: ( إن من نعم الله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري (على صدري)، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته فأمره (استاك به)،وبين يديه ركوة أو علبة - شك الراوي- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه يقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض فمالت يده صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري .
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في سكرات الموت وساعة احتضاره يدعو قائلا: ( اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى ) رواه أحمد .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، قلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه و سلم قوله: اللهم الرفيق الأعلى ) رواه البخاري .
وكانت وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة، وله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة، وكما كان يوم مولده أسعد وأشرق يوم طلعت عليه الشمس ، كان يوم وفاته أشد الأيام وحشة وظلاما ومصابا على المسلمين، بل والبشرية جمعاء.
عن أنس رضي الله عنه قال: ( لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وقال: ما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا ) رواه أحمد .
إن كل مصيبة دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون، إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وانقطعت النبوات، فهو أول انقطاع عرى الدين ونقصانه، ومن ثم ففي موته صلى الله عليه وسلم غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحل بأمة الإسلام جمعاء .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بابا بينه وبين الناس ـ أو كشف سترا ـ فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: يا أيها الناس أيما أحد من الناس ـ أو من المؤمنين ـ أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ) رواه ابن ماجه .
لقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون قضاؤه في تجرع الموت بشدته وآلامه أمرا عاما لكل أحد، مهما كانت درجة قربه من الله، حتى يدرك الناس أنه لو كان أحد سلم من الموت لسلم منه خير البشر وأفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه ، فعانى صلى الله عليه وسلم من آلام الموت وسكراته، كما عانى من قبل إخوانه من الأنبياء، قال الله تعالى: { إنك ميت وإنهم ميتون } (الزمر:30)، وقال: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } (الأنبياء 35:34) .