كتاب التناسب البياني في القرآن

0 1598

لا يزال القرآن الكريم منذ أنزله الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الشغل الشاغل للمسلمين، ولا تزال الدارسات والأبحاث منذ عصر التدوين الإسلامي تتجه لاكتشاف أسراره وإعجازه، والوقوف على مراميه وأهدافه. وليس من المبالغة القول: إن ما ناله القرآن الكريم من دراسات وأبحاث لم ينلها كتاب غيره، سواء في ذلك كتب السماء أم كتب الأرض.

وتأتي دراسة الدكتور أحمد أبو زيد ضمن هذا الإطار، لتضيء جانبا من جوانب عظمة هذا الكتاب، لطالما غفل عنه الكثيرون. 

اختار الباحث عنوانا لدراسته هو (التناسب البياني في القرآن: دراسة في النظم المعنوي والصوتي). وجاءت دراسته مؤلفة من تمهيد وقسمين.

أما التمهيد فقد أوضح فيه الباحث أن موضوع التناسب القرآني بحاجة إلى دراسة خاصة تجمع شتاته، وتبرز قيمته الجمالية والبيانية في بلاغة القرآن. واعتبر أن دراسته هذه محاولة صادقة لإبراز أوجه التناسب في النظم القرآني: معانيه ومبانيه، وأصواته وإيقاعه. 

وقد لفت الباحث الانتباه إلى أن البحث في إعجاز القرآن نشأ في جو الخلاف حول قضية اللفظ والمعنى. فغلبت عليه النظرة التجزيئية. ففريق رفع من قيمة الألفاظ، وقلل من قيمة المعاني، وفريق ثان فعل عكس ذلك. وكانت هذه النظرة التجزيئية سببا في إغفال جانب هام من بلاغة القرآن هو وحدة البناء، الذي يجعل السورة من القرآن بنية محكمة متناسبة المعاني والمباني والمطالع والمقاطع.

كما أوضح الباحث في تمهيديه أن الإشارات التي تنبه على جانب هام من بلاغة القرآن لم يلتفت إليها العلماء بالقدر اللازم من العناية. وأن عناية بعض المفسرين بذكر المناسبات المعنوية بين الآيات تم أيضا من خلال تلك النظرة التجزيئية، حيث اقتصروا على طلب المناسبات المعنوية بين كل آية وما قبلها وما بعدها، وغفلوا عن التماس الخيوط اللطيفة التي تربط بين أجزاء السورة كلها، وتجعل منها وحدة ملتحمة البناء. ومن ثم كانت هذه الدراسة محاولة لمتابعة ما أشار إليه العلماء من ارتباط آيات القرآن واتساق معانيه، وانتظام مبانيه وتعميق البحث في ذلك؛ لإبراز ما أمكن إبرازه من تلك الخصائص البيانية. 

وقد انطلق الباحث في الخوض في دراسته هذه من منطلق أن القرآن كلام الله الذي بيده ملكوت كل شيء، وكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. آياته وسوره ومعانيه ومبانيه منظومة على وجه متناسب متآلف. 

وكان مفتاح هذه الدراسة -كما يقول الباحث- هو قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء} (الزمر:23). فالتشابه هو ذكر الشيء مع نظيره. والمثاني -على أصح الأقوال- هو ذكر الشيء ومقابله. 

وقد صنف الباحث أوجه التناسب في البيان القرآني في ثلاثة أوجه كبرى، هي: التناسب المعنوي، والتناسب اللفظي، والتناسب الصوتي. ودرس الباحث هذه الأوجه الثلاثة من خلال قسمين رئيسين:

القسم الأول تناول فيه الباحث وجه التناسب المعنوي في القرآن. ويتجلى هذا الوجه في الجمع بين المعاني التي يوافق بعضها بعضا، وإلحاق الشيء بنظيره. وأبرز مظاهر هذا الوجه يتجلى في وحدة السورة، ووحدة السورة تعني أن لكل سورة غرضا محددا وهدفا واحدا، تتجه بكل معانيها ومبانيها إلى إيضاحه وإظهاره، وروحا خاصا تشترك المعاني والألفاظ والصور والأصوات في تكوينه، ونقل تأثيره. 

وذكر الباحث أن استقراء جانب التناسب المعنوي في القرآن دل على أن المعاني القرآنية ترتبط في معظم القرآن بثلاث طرق من طرق التناسب، هي: التوافق، والتقابل، والتناسق. 

والتوافق المعنوي -بحسب الباحث- هو أبرز عناصر الوحدة في كل سورة. ومن مظاهر هذا التوافق افتتاح السورة بما يناسب غرضها وروحها، واختتامها بمثل ذلك، ومنها اختتامها بما يناسب فاتحتها، ومنها اختيار ما يناسب موضوعها وهدفها. ومن أبرز أوجه التوافق في القرآن اقتران القضية بأدلتها، والتناسب بين الآيات والتعقيبات التي تختم بها.

أما التقابل، وهو كذلك من أبرز أوجه التناسب المعنوي في القرآن، فيتجلى في إيراد المعنى بإزاء ما يقابله، وفي المقابلة بين الشيء وضده. وأوضح الباحث أن أسلوب التقابل شائع في القرآن، وأنه على خمسة أضرب: التقابل المألوف، وهو أكثرها؛ والتقابل الملفوف، والتقابل المحذوف، والتقابل الضمني، والتقابل بالسلب والإيجاب. وقد عرضت الدراسة نماذج من تلك الآيات، وبينت ما بين معانيها من التقابلات الكلية والجزئية.

وأما التناسق فيتجلى في اختيار الألفاظ والتراكيب التي تحمل معاني مناسبة للسياق الذي تقع فيه. وقد ألمح الباحث إلى أن وجه التناسق يظهر بوجه خاص في الآيات المتشابهة لفظا المتفقة معنى، لكنها تختلف من سياق إلى آخر بتقديم أو تأخير، أو إظهار أو إضمار، أو اختيار لفظ مكان آخر. ومعرفة وجه التناسب في تلك التغييرات التعبيرية، يتوقف على معرفة مقاصد السور، وعلى الفحص في السياق القريب والبعيد لكل آية. وقد عرضت الدراسة أمثلة من تلك الآيات وحللتها، وأوضحت من خلالها هذا الوجه من التناسب. 

أما القسم الثاني من الدراسة فقد تناول التناسب اللفظي والصوتي والإيقاعي. وقد بين الباحث في أثناء التمهيد لدراسة هذا القسم أن التناسب في هذه الأوجه الثلاثة يتصل بمعرفة بعض خصائص اللغة العربية، كونها لغة مرنة قادرة على الوفاء بما يقتضيه مبدأ التناسب في الأوجه المذكورة، كما يتصل بإثبات أن جانبا من روعة القرآن يرجع إلى ما فيه من جمال صوتي وحلاوة إيقاعية. 

وقد بدأ الباحث دراسته لهذا القسم بعرض جملة من الخصائص المعجمية والصرفية والصوتية التي تمتاز بها العربية، كما قدمت جملة من الآراء والوقائع التي تتثبت أن روعة القرآن وقوة تأثيره ترجع في جانب منها إلى حلاوة الإيقاع وتناسب الأصوات. 

وألمح الباحث إلى أن حلاوة الإيقاع والتناسب الصوتي صفة محسوسة، يحسها كل من استمع إلى ترتيل القرآن. غير أن الدراسة التحليلية -مهما حاولت- تبقى قاصرة عن إبراز أسرار هذا الجمال بطريقة موضوعية. وحتى إن وفق المحلل الذواقة إلى الإحساس بشيء من ذلك الجمال، فإنه يظل عاجزا عن وصفه. 

أما التناسب اللفظي فيتجلى في مظهرين: تناسب المشاكلة والمجانسة، وتناسب المجاورة والإتباع.

وقد فصلت الدراسة كلا من هذين المظهرين، وأظهرت بالاستقراء مكانة هذا اللون من التناسب، وقيمته في النظم القرآني. وأوضحت الأمثلة التي أتى عليها الباحث أن القرآن يجمع بطريقته الفريدة المعجزة بين الوفاء بحق جمال اللفظ وبلاغة المعنى.

وانطلق الباحث في دراسة التناسب الصوتي والإيقاعي من اعتبار أن جمال النظم القرآني من الناحية الصوتية ينبع من تناسب الأصوات والمقاطع، ومن توازن الآيات وتناسب الفواصل. 

وتناولت الدراسة كلا من هذه العناصر بشيء من التفصيل، فأوضحت كيف تتناسب الأصوات في النسيج الصوتي الداخلي للآيات، وبينت كيف يتجنب النظم القرآني في تأليف الأصوات كل ما من شأنه أن يجعلها متنافرة أو ثقيلة، كما بينت أن المقاطع الصوتية تأتلف في هذا النظم بطرق متناسبة، تستلذها الأسماع، وترتاح لها النفوس، وتجري على الألسنة بخفة ورشاقة. ومعلوم أن الترتيبات المقطعية المتناسبة هي التي تطرب لها النفوس. 

أما التناسب الإيقاعي الذي ينبع من خارج الآيات، فيتجلى في التوازن وتناسب الفواصل، كما يتمثل في تقسيم الآيات الطويلة بالوقف على مقادير متناسبة، وقرائن متقاربة، وفي وضع تعقيبات مناسبة في ختامها، تمكن المعاني، وتحفظ جمال الإيقاع ووحدته بصورة عادلة، تكشف عن روعة النظم القرآني وكماله.

هذا مجمل ما دارت عليه هذه الدراسة. وقد امتازت الدراسة بجملة أمور جديرة بالذكر، هي: 

- جمع ما تناثر من أطراف موضوع التناسب القرآني في دراسة واحدة، بعد أن كانت هذه الأطراف موزعة في عدد من فروع الدراسات القرآنية والبلاغية. 

- اعتماد مصطلح (التناسب) للتخلص من كثرة المصطلحات التي أرهقت كاهل الدراسات التي تناولت هذا الموضوع. 

- استقرأت الدراسة بعض أوجه التناسب في النظم القرآني، مع بيان قيمتها البلاغية.

- بينت بعض الأسس التي تعين على تخليص البحث في إعجاز القرآن من الآثار السيئة للخصومة العريقة حول قضية اللفظ والمعنى، مع بيان ما يمتاز به القرآن من الجمع بين الوفاء بحق اللفظ والمعنى معا. 

وقد أقر الباحث في ختام دراسته أن ما قام به في البحث إنما هو جهد متواضع، مرده إلى أن النظم القرآني كمال مطلق، والجهد البشري قاصر عن كشف أسراره. 

يشار أخيرا إلى أن أصل هذا البحث أطروحة جامعية نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس في الرباط، ونال بها الباحث درجة دكتوراه الدولة في اللغة العربية وآدابها بميزة حسن جدا.

وقد طبع هذا البحث في كتاب ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة رسائل وأطروحات رقم (19)، 1992. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة