تعظيم القرآن المجيد

0 966
  • اسم الكاتب:من خطبة للشيخ الثبيتي \"بتصرف يسير\".

  • التصنيف:خواطـر دعوية

كانت البشرية تعيش في ظلام دامس وليل بهيم، لعبذت بعقولها انحرافات وخرافات، حتى أكرم الله هذه البشرية وأنزل عليها القرآن؛ ليخرجها من الظلمات إلى النور ومن الخضوع للأوثان والأصنام إلى خضوع كامل للواحد الديان.

أنزل الله القرآن معجزة خالدة، وتحدى به الثقلين، فأذعن لفصاحته بلغاؤهم، وانقاد لحكمه حكماؤهم، وانبهر بأسراره علماؤهم، وانقطعت حجج معارضيه، وظهر عجزهم، كيف لا وهو كلام الحكيم الخبير الذي لا يطاوله كلام ولا يجاريه أسلوب؟! قول إيجاز وآيات إعجاز.

يسر ذكره للذاكرين، وسهل حفظه للدارسين، فهو للقلوب ربيعها، وللأبصار ضياؤها، جعله الله نورا، وإلى النور يهدي، حقا وإلى الحق يرشد، وصراطا مستقيما ينتهي بسالكيه إلى جنة الخلد، لا تمله القلوب، لا تتعب من تلاوته، لا يخلق مع كثرة الترداد.

القرآن دليل درب المسلمين، دستور حياة المؤمنين، هو كلية الشريعة، عمود الملة، ينبوع الحكمة، آية الرسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، وإذا كان كذلك لزم من رام الهدى والنور والسعادة في الدارين أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي، نظرا وعملا، لا اقتصارا على أحدهما، فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه مع السابقين وفي الرعيل الأول.

الجيل الأول في صدر الإسلام ساروا على نهج القرآن، فأصبحوا خير أمة أخرجت للناس، لم يكن القرآن عندهم محفوظا في السطور، بل كان مكنونا في الصدور ومحفوظا في الأخلاق والأعمال، يسير أحدهم في الأرض وهو يحمل أخلاق القرآن وآدابه ومبادئه.

شهد الأعداء بعظمة القرآن وسمو معانيه، فقد أتى الوليد بن المغيرة مرة إلى الرسول يقول: يا محمد، اقرأ علي القرآن، فيقرأ عليه الصلاة والسلام: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}[النحل:90]، ولم يكد يفرغ الرسول من تلاوتها حتى يطالب الخصم الألد بإعادتها لجلالة لفظها وقدسيه معانيها، مأخوذا برصانة بنيانها، مجذوبا بقوة تأثيرها، ولم يلبث أن يسجل اعترافه بعظمة القرآن قائلا: والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمورق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر"(رواه البيهقي في دلائل النبوة وفي الشعب 1/156).

يخبر الرب تبارك وتعالى عن عظمة القرآن وجلاله، وأنه لو خوطب به صم الجبال لتصدعت من خشية الله: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}[الحشر:21].

إن الكلام يعظم بعظم قائله، فكيف إذا كان المتكلم هو الله جبار السماوات والأرض؟! {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32].

وعنوان الشعائر الإلهية هو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هو عظيم عند الله، وهو في اللوح المحفوظ، {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}[الزخرف:4]. قال ابن كثير في معنى الآية: "بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض"(تفسير القرآن العظيم 4/123).

إن تعظيم كلام الله تعظيم لله، قال النووي رحمه الله: "أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته، قال القاضي عياض رحمه الله: "من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه فهو كافر بإجماع المسلمين" (انظر التبيان في آداب حملة القرآن ص154).

يعظم كتاب الله بحسن التلاوة، وتصديق الأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وبما شرع الله لكم أن تعظموه به.

إن تعظيم كلام الله ليس بتزيينه وتفخيم طباعته وكاتبته، وليس بتعليقه على جدران البيوت، وليس بقراءته على الأموات، بل بإقامة حروفه وحدوده وتعظيم شأنه والسير على منهاجه، {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}(ص:29).

ومن تعظيم كتاب الله أن لا يقرأه الإنسان وهو جنب، وأن لا يمس المصحف إلا على طهارة؛ لأن النبي كتب إلى عمرو بن حزم: [أن لا يمس القرآن إلا طاهر] (وهو حديث صحيح بشواهده، وقد تلقته الأمة بالقبول).

ومن تعظيم القرآن أنه لا يجوز الكلام فيه بغير علم، يقول الإمام النووي رحمه الله: "ويحرم تفسيره بغير علم والكلام في معانيه لمن ليس من أهلها، والأحاديث في ذلك كثيرة، والإجماع منعقد عليه، أما تفسيره للعلماء فجائز حسن، والإجماع منعقد عليه"( التبيان في آداب حملة القرآن ص154).

من تعظيمه ترك تفسير القرآن بالظن، أخرج أحمد والترمذي وحسنه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي قال: [اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار](رواه أحمد والترمذي والبيهقي وضعفه الألباني).
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد سئل عن آية: "أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن أنا قلت في كتاب الله بغير علم". وكان كثير من السلف يتحرج أن يتكلم في التفسير ويهابه.

ومن تعظيمه: إحضار القارئ قلبه في القراءة والتفكر فيها، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله يقول: [يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية](البخاري ومسلم).

من تعظيم القرآن تنظيف الفم لأجل القراءة بالسواك والمضمضة، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: [لولا أن أشق على أمتي ـ أو على الناس ـ لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة](متفق عليه)، وظاهر هذا أنه كان يفعل هذا للصلاة وقراءة القرآن.

من تعظيمه كراهية قطع القراءة لكلام الناس، فلا ينبغي أن يؤثر كلام الناس على قراءة القرآن، روى البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه.

ومن تعظيمه تلقي القرآن من العدول العلماء بما أخذوا وبما يؤدونه، روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال لأبي: [إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: الله سماني لك؟! قال: الله سماك لي، قال: فجعل أبي يبكي](البخاري ومسلم).

ومن تعظيمه ترك المماراة في القرآن، روى البخاري عن جندب بن عبد الله عن النبي قال: [اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه](متفق عليه)، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: هجرت إلى رسول الله يوما قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال: [إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب](مسلم).

ومن تعظيمه عدم السفر بالقرآن إلى أرض العدو، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: [نهى رسول الله أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو](وهو في الصحيحين). وفي صحيح مسلم: قال رسول الله : [لا تسافروا بالقرآن؛ فإني لا آمن أن يناله العدو]. قال النووي: "النهي عن المسافرة بالمصحف مخافة أن يناله العدو فينتهكوا حرمته، فإذا أمنت العلة فلا كراهة ولا منع منه".

ومن تعظيمه ترك استئكال الأموال بالقرآن، روى الترمذي وقال: "حديث حسن" عن عمران بن حصين أنه مر على قاص يقرأ ثم سأل، فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله : [من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس](الترمذي).

ومن تعظيم القرآن: المحافظة على الكتب العامة والكتب المدرسية والصحف التي تشتمل على آيات من القرآن الكريم في غلافها أو داخلها، لكن بعض المسلمين حينما يقرؤون تلك الكتب والصحف يلقيها، فتجمع مع القمائم وتوطأ بالأقدام، بل قد يستعملها بعضهم سفرة لطعامه ثم يرمي بها في النفايات مع النجاسات والقاذورات، ولا شك أن هذا امتهان لكتاب الله العظيم وكلامه المبين.

ومن تعظيم كلام الله أن يرفع فلا يوضع في الأرض، لا سيما في الأرض التي ليست محترمة، فإن وضعه في أرض ليست محترمة يدل على عدم مبالاة الواضع به، وأن لا تمد إليه رجليك، وإذا كان الإنسان يقرأ في مصحف وهو في المسجد أو في بيته ثم أراد السجود ووضعه بين يديه فإن هذا لا بأس به ولا إهانة فيه للقرآن.

ومن حق القرآن علينا ـ نحن المسلمين ـ المنافحة عنه وعدم السكوت على من يتهجم علىه أو يستهزئ به، أو يقوم بتدنيس آيات المصحف الشريف، أو امتهان كتاب الله عز وجل؛ فهذا عمل مشين وسلوك دنيء وإساءة لجميع المسلمين، والواجب الإنكار الرسمي والشعبي والمطالبة والسعي للتحقيق مع مرتكبي هذه السلوكيات المشينة، وإنزال العقوبات الرادعة بكل من ارتكب هذه الجريمة النكراء، مع الاعتذار العام لجميع المسلمين في كل أصقاع الأرض، فهذا العمل من أشد الموبقات جرما.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة