الوضع في الحديث 3-3

1 2027

اتفق علماء الأمة على تحريم رواية الحديث الموضوع, فلا تحل روايته لأحد علم حاله وعرف أنه موضوع، إلا مبينا حاله ومصرحا بأنه موضوع، يقول الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: "الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها, وثقات الناقلين لها من المتهمين, أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه.. وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع, والدليل على أن الذي قلناه هو اللازم دون غيره, قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6) وقوله: {ممن ترضون من الشهداء} (البقرة: 282) فدل بما ذكر من الآيتين أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول, وأن شهادة غير العدل مردودة" ا.هـ مختصرا.

وقبل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين) رواه مسلم في مقدمة صحيحه، وكفى بهذا الوعيد الشديد في حق من روى حديثا يظن أنه كذب، فضلا عن أن يروي ما يعلم كذبه ولا يبينه.

ولا شك أن من روى حديثا موضوعا فلا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما أن يجهل أنه موضوع, وإما أن يعلم بوضعه بواحد من طرق العلم به, وهذا إما أن يقرن مع روايته تبيان حاله, وإما أن يرويه من غير بيان لها.

فأما الأول: وهو من يجهل أنه موضوع, فلا إثم عليه إن شاء الله, وإن كنا نعتقد أنه مقصر في البحث عنه, لكن لا يؤمن عليه العقاب في تركه البحث عن حال ما يحدث به, لاسيما وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم.

وأما الثاني: وهو من يعلم وضعه ويبين حاله فلا شيء عليه، إذ قد أمن ما كان يخشى منه، وهو علوقه في الأذهان منسوبا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا كانت روايته له قاصدا بها إبانة حاله, فهذا مأجور لنفيه الدخيل عن الحديث الشريف وتنبيه الناس عليه, فهو من عدول خلف الأمة ومن خيارها الذين امتازوا عمن سواهم بأنهم ينفون عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

وأما الثالث: وهو من رواه من غير بيان لحاله مع علمه بأنه موضوع فهو مأزور وآثم, سواء ذكر إسناد الموضوع أم لا؛ إذ لا يكتفى بإيراد الإسناد في هذا الزمان, بل لا بد من التصريح بأنه موضوع وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم, فذكر الإسناد وعدمه سواء, يقول الإمام السخاوي: "ولا تبرأ العهدة في هذه الأعصار بالاقتصار على إيراد إسناده - أي الموضوع - لعدم الأمن من المحذور به, وإن كان صنعة أكثر المحدثين في الأعصار الماضية"، وهذا في عصر السخاوي في القرن التاسع فما بالكم بعصرنا الحاضر؟! فقد كانت طريقة الاكتفاء بالإسناد معروفة لدى القدماء، لأن علماء عصرهم يعرفون الإسناد, فتبرأ ذمتهم من العهدة بذكر السند، أما عصرنا هذا فقد سرت العدوى فيه من إضاعة الإسناد إلى إضاعة المتون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

حكم العمل به

العمل بالحديث الموضوع حرام بالإجماع، لأنه ابتداع في الدين بما لم يأذن به الله, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه، وكان يقول في خطبته كما في سنن أبي داود: (وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة)، هذا في الأمور الدينية التعبدية, أما في الأمور الدنيوية: فالعمل به على أنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرام أيضا, أما على غير ذلك فحكمه يختلف باختلاف تلك الأعمال، وتنطبق عليه الأحكام الشرعية والقواعد المرعية.

ومما يزيدنا يقينا بحرمة العمل بالأحاديث الموضوعة ووجوب كشفها وبيان حالها ما سنذكره من آثارها السيئة على الأمة الإسلامية في شتى الأصعدة.

الآثار السيئة للوضع

كان للوضع آثار سيئة على الأمة الإسلامية لبست الطابع العلمي وتغلغلت في التفكير والسلوك، وهذا أمر طبعي, فكل مضر للمجتمع - أيا كان - إذا وجد البيئة التي يرتع فيها والمناخ الذي يتنفس فيه, فإنه يترك آثارا لا تنمحي وجروحا لا تندمل على مر الزمان, وكذلك الوضع والزيادة في الحديث النبوي؛ بل يمكن القول بأن الوضع هو رأس الحربة المسموم الذي طعن الإسلام في الصميم, بواسطة الغزو الفكري الذي لا زالت آثاره ومخلفاته باقية إلى الآن.

ولم تكن حركة الوضع حركة ارتجالية عفوية في كل الأحيان, بل تطورت إلى حركة مدروسة هادفة, وخطة مدبرة شاملة لها خطرها في جميع الميادين، يروي حماد بن سلمة عن أحد كبار الوضاعين قوله: "كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئا جعلناه حديثا ونحتسب الخير في إضلالكم"، فقد كان للوضاعين - على اختلاف منطلقاتهم - أبعاد حاولوا الوصول إليها عن طريق الدين, سواء منهم الأعداء الماكرون أو الأتباع الحمقى, فألصقوا فيه ما ليس منه, وأحلوا القشور مواضع اللباب, وألبسوا التفاهات ثوب المهمات, واستبدلوا الشرك بعقيدة التوحيد، فكان من النتائج المباشرة لتلك الحركة المشبوهة على العديد من أجيال المسلمين , شيوع ما لا يحصى من الآراء الغريبة والقواعد الفقهية الشاذة والعقائد الزائفة والافتراضات المضحكة التي أيدتها وتعاملت بها وروجت لها فرق وطوائف معينة.

وقد ساعد على بلوغ "الوضع في الحديث" مأربه, وبروز آثاره بشكل واضح, ما مني به المسلمون في عصور الانحلال وإلى عصرنا الحاضر من ضعف في الثقافة الدينية الصحيحة, إلى جانب انتشار المذاهب الهدامة, فصارت ظلمات بعضها فوق بعض, بلغت بالأمة إلى ما نراه من جهل وذل وانكسار؛ ولأن الخير باق في هذه الأمة إلى يوم الدين، فقد قيض الله رجالا أمناء مخلصين, قاوموا الوضع والوضاعين وتتبعوهم, وميزوا بين الصحيح والسقيم, وبذلوا جهودا جبارة في سبيل حفظ الشريعة وأصولها، سنتحدث عن أبرز جهودهم في مواضيع لاحقة بإذن الله، وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة