- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:من الهجرة إلى بدر
من الدعائم الهامة التي اعتمدها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بنائه للدولة المسلمة الجديدة تحقيقه للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي خطوة لا تقل أهمية عن الخطوة الأولى في بناء المسجد لكي يتلاحم المجتمع المسلم الوليد، وتذوب فيه عصبيات الجاهلية، وتسقط فوارق الوطن واللون والنسب، ولا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بدينه وتقواه ..
وقد بلغ من تأكيد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المؤاخاة أن ميراث الأنصاري كان يؤول بعد وفاته إلى أخيه المهاجري كذوي رحمه من الأخوة أو الأبناء أو النساء، وقد استمر العمل بذلك زمنا، حتى فتح الله لهم أبواب الخير من غنائم الحرب وغيرها، فنسخ الله تعالى العمل بهذا الحكم، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه، وذلك في قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله }(لأنفال: من الآية75) .
وقد روى ابن هشام في سيرته أسماء بعض الذين آخى بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " .. فقد آخى بين أبي بكر و خارجة بن زهير، وآخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين أبي عبيدة بن الجراح و سعد بن معاذ، وبين الزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين مصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد رضي الله عنهم أجمعين ، وأسماء أخرى بلغت تسعين صحابيا، قال لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( تآخوا في الله أخوين، أخوين ) " .
وقد تلقى الأنصار أوامر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسمع والطاعة، وبالفرح العميق، وفتحوا قلوبهم ودورهم لإخوانهم في العقيدة، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( قالت الأنصار للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفوننا المؤونة (السقي والعمل) ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا ) رواه البخاري .
وفي المقابل قابل المهاجرون إيثار إخوانهم بتقدير كامل، رافضين أن يكونوا عالة على أولئك الذين آووهم وقاسموهم، وليست قصة عبد الرحمن بن عوف مع أخيه الأنصاري سعد بن الربيع سوى مثل واحد من عديد من الأمثلة على هذا التقابل الأخوي في الأخذ والعطاء .
عن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ : ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اخى بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فجاء سعد فعرض عليه أن يقاسمه ماله، وقال له: انظر أي زوجتي أحب إليك أتنازل لك عنها حتى إذا ما انتهت عدتها تزوجتها. فأبى عبد الرحمن وقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدله على السوق، فباع وابتاع حتى صار له مال، وتزوج امرأة من الأنصار بوزن نواة من ذهب، فقال له النبي: أولم ولو بشاة ) رواه البخاري .
وهكذا ضرب سعد بن الربيع ـ رضي الله عنه ـ مثلا فريدا في الإيثار، وضرب عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ مثلا عاليا لعزة النفس والرغبة في العمل والاكتساب .
إن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار حملت في طياتها كثيرا من المعاني الطيبة التي كان من المهم أن تغرس في نفوس الصحابة، خاصة في تلك المرحلة الهامة من تاريخ الإسلام، لما لها من أثر قوي في بناء الدولة المسلمة، ومن هذه المعاني :
أن يكون التآخي من خلال العقيدة ، والحب والتناصح في الله، والعطاء والإيثار، والقضاء على القبلية والعصبيات، وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، قال الله تعالى: { إنما المؤمنون إخوة }(الحجرات: من الآية10)، وقال: { والذين تبوأوا الدار والأيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }(الحشر:9)، وقال:{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم }(الحجرات: من الآية13)، وقال: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين }(المائدة:51) ، وهذه المعاني وغيرها جديرة بأن نقف معها، لا لتأملها فحسب، بل لنقيم واقعنا ـ اليوم ـ كأفراد ومجتمعات عليها .
لقد نجحت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ـ بفضل الله ـ ، لأن الأرضية التي أقيمت عليها والقيادة التي خططتها ونفذتها استكملتا شروط النجاح في مجتمع وليد يحكمه مبدأ العطاء قبل الأخذ، وتشده أواصر العقيدة وحدها، ويوجهه الإيمان العميق في أقواله وأعماله، ويقوده الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأسوة والقدوة، الذي ضرب بعطائه وإيثاره مثلا عاليا ومؤثرا يحرك الحجارة الصم فيتدفق منها الماء ..