- اسم الكاتب:محمد صالح المنجد
- التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ..
سبحان الذي جمع قلوب المؤمنين على المودة، و جعلهم في توادهم كالجسد الواحد، ومن علامات الإيمان : مودة بعضهم لبعض، وهو -عز وجل- الذي ألف بين قلوبهم بإيمانهم به، {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}(الأنفال :62-63).
فاجتمعوا وتآلفوا، ولم يكن هذا بسعي أحد ولا قوة أحد إلا الله -عز وجل-، فلا يقدر على تأليف القلوب إلا الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله إذا قارب بين القلوب، لم يزحزحها شيء.
وهذه المودة التي جعلها الله -سبحانه وتعالى- في قلوب هؤلاء المؤمنين بسبب هذا الإيمان، كما أخبرهم {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} (مريم:96).
أي يلقي بينهم المحبة، فيحب بعضهم بعضا، فيتراحمون ويتعاطفون بما جعل الله في قلوبهم من هذه المحبة التابعة لمحبته، وأهل المعاصي والفسوق، إذا كان بينهم نوع مودة فإنها سرعان ما تنقلب، وتستحيل إلى عداوة وكثيرا ما تكون في الدنيا قبل الآخرة، فهو معجل.
هذه المودة بين المؤمنين ليست لأجل نسب ولا مال.
إنا وإن لم يكن بيننا نسب *** فرتبة الود تعلو رتبة النسب
هذه إذا تفكر فيها الإنسان وجدها من جذوة الإيمان
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم *** وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعا *** وإذا المودة أقرب الأسباب
وحرم على النار كما قال -عليه الصلاة والسلام- : "حرم على النار كل هين، لين، سهل، قريب من الناس"(أحمد وصححه الألباني) .
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- فقال : "المؤمن آلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف " وحسنه في الصحيحة (427) .
قال ميمون بن مهران: " التودد إلى الناس نصف العقل ".
الأسباب الشرعية في تحصيل المحبة وكسب القلوب
ولهذه المودة أسباب، ولها طرق في تحصيلها بالإضافة إلى توفيق الله -عز وجل- وأساس الإيمان الذي بنيت عليه .
وقد كثرت الدورات النفسية التي تطل على الناس بمدربين وكتاب، ومعاهد ودورات، كيف تصبح محبوبا، كيف تكون رجل علاقات ناجحا، كيف تكون جذابا، كيف تكسب مودة الآخرين، وغفل كثير من هؤلاء المدربين والمتدربين عن الأسباب التي وردت في الشرع في تحصيل المحبة وكسب القلوب، وأساس القضية يا عباد الله كما تقدم ويوضحه حديث جبريل، قال -عليه الصلاة والسلام- : "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل. ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء. قال: ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"متفق عليه، واللفظ لمسلم.
هذه المحبة التي جعلها الله في قلوب الناس لهذا المؤمن الذي اقترب من ربه فأحبه، هذه المودة الموعود بها، {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} (مريم:96).إنها مشاهدة في القديم والحديث، قال سهيل بن أبي صالح – رحمه الله - : كنت مع أبي في يوم عرفة، فوقفنا لننظر إلى عمر بن عبد العزيز، وكان أمير الحج وقائد الناس في الموسم.
فقلت: يا أبتاه، والله إني لأرى الله يحب عمر.
قال : بم ؟
قلت : لما أراه دخل له في قلوب الناس من المودة، وأنت سمعت أبا هريرة -سهيل بن أبي صالح يحدث عن أبيه عن أبي هريرة ويقول لأبيه الحديث الذي حدثه به - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه.." . سير أعلام النبلاء (5 / 119).
ولذلك لا بد في تحصيل محبة الناس من العودة إلى الأصل، واتباع الأسباب الإيمانية الجالبة لذلك ومنها متابعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}(آل عمران: من الآية31). فإذا أحبكم الله نادى جبريل فنادى أهل السماء فتوضع المحبة في الأرض، فيجتمع عليك الناس يا عبد الله وتلقى محبتك في قلوبهم.
فهم بسلطان التقى اتخـــ ـذوا قلوب الناس جندا
وعن زيد بن أسلم قال: " كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا ". الدر المنثور (1/534).
وعن قتادة أن هرم بن حيان كان يقول: " ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم ". الزهد الكبير للبيهقي (2 / 313).
وسائل استمالة القلوب وكسب محبة الناس
1.الزهد في الدنيا
ومن وسائل استمالة القلوب وكسب محبة الناس الزهد في الدنيا، وقد جاء رجل كان له هم في هذا الجانب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك".رواه ابن ماجه (4102) وحسنه النووي، وصححه الألباني.
فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه لأن المال محبوب للناس، فإذا نازعتهم في محبوبهم حصل ما حصل من النفرة، فإذا استغنيت عن ما في أيديهم اجتمعوا عليك وأقبلوا.
قال أعرابي لأهل البصرة : من سيد أهل هذه القرية ؟
قالوا : الحسن .
قال : بم سادهم ؟
قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
وكتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه: " أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام ".شعب الإيمان(7 / 381).
2.إفشاء السلام
ومن وسائل استمالة القلوب الشرعية: إفشاء السلام، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام- "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا ( إفشاء، إعلان، إشهار، نشر، إكثار، ممارسة عملية، باستمرار ) السلام بينكم".رواه مسلم (54) .
إنه يغرس المحبة، ويزيل العداوة،
قال الحسن البصري : " المصافحة تزيد في المودة".
قال بعض السلف : ( تصافحوا يذهب الغل ).
وقال إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري: خرجت لأبي جائزته [ من الخليفة، من بيت المال ]، فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته – يدون الأسماء، لأن توزيع ما يأتي من الرزق كان من سنن السلف -، ففعلت.
فقال لي: تذكر، هل بقي أحد أغفلناه.
قلت: لا .
قال: بلى، رجل لقيني فسلم علي سلاما جميلا، صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير.مكارم الأخلاق صـ 113.
3.الابتسامة وطلاقة الوجه
من وسائل استمالة القلوب الابتسامة والبشاشة وطلاقة الوجه، وهذا الذي أخبر به -عليه الصلاة والسلام- بقوله : "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".(رواه مسلم).
إن نور الوجه حين يبتسم يجعل القلب أسيرا في رضاه، وهذه الابتسامة طيبة، كلمة من غير حروف، لا تكلف كثيرا لكنها تعني الكثير.
4.الزيارة في الله
ومن وسائل استمالة القلوب الشرعية الزيارة في الله: وقد كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أن يزور أصحابه.
إن أردتم من صديق *** وصل ود أو قراره
فـعــليــكــم بـالـزيارة *** تارة من بعد تارة
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكا. فلما أتى عليه قال: أين تريد. قال: أريد أخا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟. [ أي تقوم بإصلاحها , وتنهض إليه بسببها، علاقة مالية ].
قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه".رواه مسلم (2567).
من زار غبا أخا دامت مودته *** وكان ذاك صلاحا للخليلين
5.الإحسان إلى الناس
ومن الوسائل أيضا الإحسان إلى الناس وقضاء حوائجهم، فقد جبلت القلوب على الميل لمن أحسن إليها، وقال عمر بن الخطاب لسعيد بن عامر [ وكان واليا على الشام ]: ما لأهل الشام يحبونك.
فقال : لأني أعاونهم وأواسيهم . المستدرك على الصحيحين (4 / 441).
والإحسان إلى الناس ليس فقط طريقا لمحبتهم، وإنما هو أيضا محبة الله لهذا المحسن، "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس".حسنه الألباني. {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}(البقرة : 195).
فهذا السخاء يأسر القلوب ..
عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي. رواه الترمذي (666) وصححه الألباني.
وقال الحسن: " من بذل درهمه أحبه الناس طوعا وكرها ". محاضرات الأدباء (1 / 296) .
ثم إدخال السرور عليهم، مما يجمعهم عليك، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، وهذه عبادة، ولو كانت بطرفة تفرج به عن أساريره إذ اجتمعت عليه أسباب الكرب وغموم الدنيا .
وأما إطعام الطعام ودعوة الناس إليه، فإنه أيضا مما يجعل ما بينهم محبة لمن أطعمهم، يجعل فيهم محبة لمن أطعمهم، وإهدائهم له إثر عجيب، فلذلك قال : "تهادوا تحابوا". حسنه الألباني.
وعن أنس قال: " يا بني! تبادلوا بينكم -يعني الهدايا- ؛ فإنه أود لما بينكم". صحيح الأدب المفرد..
فهي تسل السخيمة, وتجلب المودة، وتزرع المحبة، وتنفي الضغينة, وتصير البعيد قريبا، والعدو صديقا، والبغيض وليا، والثقيل خفيفا.
ثلاث تكسبك محبة الناس: التواضع, والإهداء, والإصغاء.
وحفظ الجوار أيضا، فإنك إذا بذلت له ما بذلت، وعدته في مرضه، وعزيته في مصيبته، وهنأته في فرحته، وصفحت عن زلته، وسترت عورته، فإنه يحبك بلا ريب.
ثم إن الثناء على الناس بالحق يستجلب القلوب أيضا، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يثني على أصحابه بالحق، ليلفت أنظار الآخرين ما تميز به فلان وفلان.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: جاء رجل إلى أبي فذكر أنه كان عند بشر بن الحارث, فذكروه – يعني ذكروا أحمد بن حنبل في مجلس بشر - فأثنى عليه بشر، وقال: لا ينسى الله لأحمد صنيعه، ثبت وثبتنا، ولولاه لهلكنا.
قال عبد الله: ووجه أبي يتهلل.
فقلت: يا أبت أليس تكره المدح في الوجه؟
فقال: يا بني إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين، وما كان مني فحمد صنيعي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن مرآة المؤمن)).الآداب الشرعية (4/149). [ والحديث صححه الألباني في الصحيحة].
فإذا مدحه بالحق، وكانت شهادة بغير طلب، وليست كما يفعل اليوم من طلب المدح واستجلابه بالمال، وشهادة زور تقال في أبيات لا تغني عند الله شيئا، ولذلك قال: احثوا في وجوه المداحين التراب. فهذا المدح بالباطل، الذي جعل الشاعر فيه بضاعته المدح، يستأكلون به الممدوحين، فأما المدح بالحق دون طلب تأتي شهادة يجريها الله على ألسن عباده بالثناء على صلاح أحد من الصالحين، أو معروفه، فهذه شهادة بالحق ومن عاجل بشرى المؤمن، ((أنتم شهداء الله في الأرض)).
ثم الدعاء بالشكر، إذا قصرت يداك بالمكافأة فليطل لسانك بالشكر والدعاء، وحسن الكلام والكلمة الطيبة، له أثر في تأليف القلوب واستجلاب المحبة، كسبت مطلقة زوجها مرة أخرى بحلاوة منطقها وطيب خلقها، فقد طلق الحسن بن علي امرأتين – رضي الله عنه ورحمه - قرشية وجعفية وبعث إلى كل واحدة منهما عشرين ألفا.
وقال للرسول: احفظ ما تقول كل واحدة منهما , فقالت القرشية: جزاه الله خيرا, وقالت الجعفية: متاع قليل من حبيب مفارق- كل هذا المال بجانب المفارقة قليل، فهو أثمن من المال،ـ فهي لا زالت تحبه مع أنها فارقها- فأعجبه قولها، وراجعها.
وقال أحد الصالحين: " لا يكسب محبة الناس في هذا الزمان إلا رجل خفيف المؤونة عليهم، وأحسن القول فيهم، وأطاب العشرة معهم ". حلية الأولياء (9 / 376).
كم تأتي هذه الكلمة الطيبة بحسنات تجمع القلوب، وتسوي صفوفا قد تمزقت، وتزيل أحقادا في نفوس قد اجتمعت .
وحسن الإصغاء كذلك، " كان -عليه الصلاة والسلام- إذا حدث أحد التفت إليه بوجهه وأصغى إليه، ولا يقطع عليه كلامه .
من لي بإنسان إذا أغضبته *** وجهلت كان الحلم رد جوابه
وتراه يصغي للحديث *** بطرفه وبقلبه، ولعله أدرى به