من أشراط الساعة .. ذهاب الصالحين

2 7932

لا تحيا الأمم ولا ترقى الشعوب إلا بعظمائها، وعظماء أمة الإسلام هم أهل الصلاح والإصلاح، الذين يحتسبون وجه الله سبحانه فيما ينالهم من العنت والمشقة حين تأدية واجبهم وتحقيق رسالتهم، والذين يتركون في الناس الذكر الحسن في حياتهم وبعد مماتهم، هم البركة الحقيقية والذخيرة التي لا تنضب، يعرف ذلك من لمس أثرهم، وحرص على القرب منهم، وشتان بين الجليس الصالح، وجليس السوء.

فإذا كانت حاجة الأمم إليهم وتعلقها بهم لا تقدر بثمن، فكيف الحال إذا كان تناقص أعدادهم واختفاء آثارهم هو علم من أعلام الساعة وأشراطها؟

ذلك هو ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابته تصريحا وتلميحا في غيرما مناسبة ، وكان من جملة إخباراته النبوية ما جاء في حديث مرداس الأسلمي رضي الله عنه مرفوعا: (يذهب الصالحون الأول فالأول, وتبقى حفالة, كحفالة الشعير والتمر, لا يباليهم الله بالة) وفي رواية: (لا يعبأ الله بهم) كلاهما في البخاري .

ومعنى "حفالة": ما يسقط من قشر الشعير عند الغربلة، ومن التمر بعد الأكل، وقد جاء في رواية أخرى بلفظ "حثالة"، وهي بذات المعنى، وأما معنى "لا يباليهم الله بالة": لا يرفع لهم قدر ولا يقيم لهم وزنا.

فهذا الحديث يشير صراحة إلى أن موت الصالحين وتناقص أعدادهم هو من أشراط الساعة، وأن ذهابهم يكون شيئا فشيئا وليس مرة واحدة، كما أن في الحديث السابق ترغيب في الاقتداء بالصالحين، والتحذير من مخالفة طريقهم، خشية أن يكون من خالفهم ممن لا يباليه الله ولا يعبأ به، كما ذكر ذلك شراح الحديث.

وقريب من الحديث السابق ما جاء في سنن ابن ماجة، ومسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لتنتقون كما ينتقى التمر من أغفاله، فليذهبن خياركم، وليبقين شراركم) ومعنى "من أغفاله": أي مما لاخير فيه.

وعنه رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا) رواه الترمذي وأحمد.

إن الحديث السابق يسفر عن ذات الحقيقة، وهو أن صلاح المجتمعات آخذ بالتناقص مع مرور الوقت،كما يشير إلى النسبية والتفاوت في مستوى الصلاح بين الأجيال الأولى في الإسلام والأجيال اللاحقة على وجه العموم، وقد فسر الحديث بأن العشر المأمور به إنما المقصود به: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي الرعيل الأول وفي فجر الإسلام كان الدين عزيزا، وفي أنصاره كثرة، فلا عذر في التهاون في هذه الشعيرة العظيمة، ولكن حين يضعف الإسلام، وتكثر الظلمة، ويعم الفسق، ويكثر الدجالون، وتقل أنصار الدين، ويتوارى الحق فيعذر المسلمون فيما تركوه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعدم القدرة، والله سبحانه وتعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

هذا ما قاله الشراح في بيان المعنى، والذي دفعهم إلى تخصيص العموم الوارد في قوله –صلى الله عليه وسلم: (عشر ما أمر به) أن المسلم لا يعذر فيما يهمل من الفرض الذي تعلق بخاصة نفسه، وإن كثر أهل الظلم، وقل أهل الحق، ويمكن أن يجاب على ذلك بأن المأمور به ليس خاصا بما هو فرض لازم على المكلف، بل يشمل المندوبات والمستحبات، فيكون معنى الحديث أن زمان الصحابة رضوان الله عليهم كانوا في واقع يسمح بالاستقامة التامة على منهج الله فلا يكون تركهم للمأمورات –إجمالا- كحال من تركها في بيئة لا تساعد على التمسك التام، وهنا تأتي مسألة النسبية المتلازمة بين تدين الإنسان وواقعه، والتنبؤ بالتناقص التدريجي في استقامة المجتمعات كشرط من أشراط الساعة، فيكون معنى الحديث مطابقا لقوله –صلى الله عليه وسلم-: (لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم) رواه البخاري.

إذن فالصالحون لا يخلفهم من يسد ثغرتهم، ودائرة الصلاح تضيق شيئا فشيئا، هذا هو مقتضى الأحاديث السابقة، وهو الأمر الذي يقودنا إلى سؤالين مهمين لا يمكن إغفالهما: ما هو الصلاح المقصود؟ ومن هم الصالحون؟

نقول بداية إن الله أمرنا بلزوم الصلاح، والذي هو في جوهره: طاعة الله ورسوله، والامتثال للمأمورات الشرعية، والانتهاء عن المحذورات، قال تعالى: {كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} (المؤمنون: 51)، وقد وعد الله سبحانه وتعالى من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فقال: { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} (النساء:124)، وقال تعالى:{ فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} (الأنبياء:194).

ومن هم الصالحون؟ يخطيء البعض حين يختزل معنى الصلاح واسم الصالحين في العلماء وطلبة العلم والسالكين المسلك الشرعي، والحق أن دائرة الصلاح تتسع باتساع مفهومه لتشمل ميادين الخير كلها، الأمر الذي يقتضي دخول المنفقين والعباد والدعاة، والمصلحين والمربين، والحريصين على ريادة أمتهم والارتقاء بها، والقضاة الحكام الصالحين وغيرهم، فالتناقص ظاهرة عامة تشمل هؤلاء جميعا.

وهذا التناقص والذهاب للصالحين جار وفق الأسباب والسنن الإلهية التي هيأت له، فمع انتشار وسائل الفساد والإفساد، وعدم قدرة كل جيل أن ينشيء جيلا آخر شبيها به، أو على الأقل: يتناسب معه كما وكيفا، نشأ هذا الاختلال في مستوى الصلاح وسبب تناقص مظاهره على وجه العموم.

والواقع يشهد أنه قلما يذهب رأس من رؤوس الصلاح فيخلفه من هو مثله في مستواه العلمي أو مكانته الدعوية أو دوره الحيوي فيخلف في الناس فراغا، وبالمثل: فإننا نشهد نكسة تربوية عامة ولم يعد الطريق سهلا ميسرا في تحقيق الدور المنشود، فضلا عن كثرة المغريات التي تبعد الناشئة عن مسالك الهدى والصلاح، ومن ثم فإمكانية التغيير أو البناء تواجه صعوبات جمة وتتطلب مجهودا أكبر مما كان عليه في السابق.

وكواقع حتمي ونبوءة سوف تتحقق على طول الشريط الزمني للحياة الدنيا فإن دائرة الصلاح سوف تتقلص باستمرار، حتى تضمحل تماما ولا يبقى منها أثر، وتكون تلك هي العلامة على قيام الساعة، ولنا في ذلك حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض، فيبقى فيها عجاجة، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا) رواه أحمد، والشريطة: يعني أهل الخير والدين، والعجاج: الغوغاء والأراذل، ومن لا خير فيه.

ولنا كذلك حذيفة بن اليمان عند ابن ماجة، وفيه: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة، ولا نسك ولا صدقة، ويبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها)، وحديث أنس رضي الله عنه: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله) رواه مسلم.

على أننا نؤكد أن هذه الأحاديث تتحدث عن جانب إخباري يتعلق بفترة زمنية طويلة تشمل أجيلا متتالية، فليس المقصود نفي الخيرية عن أمتنا أو أن تكون هذه الأحاديث سببا في تسرب اليأس من النفوس أو مدعاة للتخاذل، فكما بينت السنة الخلل الحاصل فقد بينت أسبابه، وبتجنب الأسباب يكون الصلاح، والعبد إنما هو مكلف بخاصة نفسه أن يصلحها وليس مسؤولا عن فساد غيره ما دام قد أدى ما عليه: {لست عليهم بمصيطر} (الغاشية: 22).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة