من أشراط الساعة...التطاول في البنيان

2 1429


يحلو لكثير من هواة التصوير أن يستخدموا تقنية مرور الزمن "Time lapse"، والمقصود بها: صور يتم التقاطها تتابعيا على فترات من الزمن، ثم يتم دمجها في شريط واحد، ليخرج لنا مشهد جميل.

والآن دعونا نتخيل شريطا تم تصويره بهذه التقنية، لرصد التسارع العمراني الذي حدث في الحضارات عموما، وفي جزيرة العرب خصوصا، في مدى زمني يزيد عن الأربعة عشر قرنا، عندها سنجد شريطا يصور في بدايته: خياما متناثرة، وبيوتا طينية متواضعة، وقصورا أعلاها بضعة أمتار، وأما نهاية الشريط فسيفجؤنا بــ: مظاهر عمرانية متنوعة، وقصور شاهقة، وأبراج فخمة، وأبنية ناطحت السحاب بل اخترقته في كثير من الأحيان، ولم تتوقف عند هذا الحد، فكل يوم يحمل في طياته أبنية هي الأعلى والأطول والأفخم، في مشهد يجسد النقلة النوعية التي حدثت في التاريخ للثورة العمرانية المعاصرة، ويبين التسابق المحموم والمنافسة الكبيرة بين أبناء العرب، بعد عهود طويلة من الفقر في الموارد، والبساطة في المعيشة.

إنه الحديث عن أمارة تدل على قرب قيام الساعة، "تطاول في البنيان" تنبأ به المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في مواقف عدة.

ففي الحديث الشهير عن جبريل عليه السلام حينما سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان، جاء في نهايته: فقال الرجل: فأخبرني عن الساعة، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) رواه البخاري.

وجاء الحديث السابق في موضع آخر من الصحيح بلفظ: (وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله)، ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة} (لقمان: 34) الآية. وفي صحيح مسلم بلفظ: (إذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان، فذاك من أشراطها).

ونلحظ أن الأوصاف النبوية التي جاءت في بيان هؤلاء المتطاولين في البنيان، فنجد أنها: "رعاة الإبل" و"رعاة الشاء" وفي مسلم "رعاء البهم" لتشمل جميع أنواع الأنعام، وأنهم "حفاة" وهم الذين ليس لهم نعال يلبسونها، وأنهم "عراة" والمقصود به عدم وجود الثياب الكافية لهم لا العري الكامل، والوصفان السابقان هما على الأغلب، وهذا هو الواقع إذ كان عامة أهل الجزيرة بمثل هذه الحال.

وأما الوصف النبوي بأنهم: "عالة" فهو وصف يدل على شدة فقرهم وحاجتهم، يقول الإمام النووي مفسرا: "أما العالة فهم الفقراء، والعائل الفقير، والعيلة الفقر، وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر..ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في البنيان"، وعليه: فإن الأوصاف السابقة جاءت تحديدا في حق الشعوب العربية دون غيرهم، ويؤكد هذا المعنى أن النبي –صلى الله عليه وسلم- عندما سئل: من أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: (العرب) رواه أحمد.

فالحال أن التطاول في البنيان الذي يحدث من العرب هو علامة من العلامات التي تدل على قرب قيام الساعة، وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: ما المقصود بالتطاول في البنيان؟

يجيب الحافظ ابن حجر عن هذا التساؤل بقوله: "ومعنى التطاول في البنيان: أن كلا ممن كان يبني بيتا يريد أن يكون ارتفاعه أعلى من ارتفاع الآخر، ويحتمل أن يكون المراد المباهاة به في الزينة والزخرفة أو أعم من ذلك، وقد وجد الكثير من ذلك وهو في ازدياد".

وعليه، فالتطاول في البنيان له دلالتان: التطاول بمعناه المباشر والذي يقتضي أن يرفع كل واحد بناءه، والتطاول بمعنى أن يحسنوا ويجملوه ويتسابقون في تزويقه وتفخيمه، وإبرازه كتحفة معمارية على وجه المغالبة والمفاخرة.

ولا شك أن هذا التطاول يكون على وجه المذمة حين يكون على وجه الإسراف، وأن منشأ هذا الخلل: صرف المال في غير ما ينبغي أن يصرف المال فيه شرعا، فالمبالغة في الكماليات قد يشير إلى وجود الإسراف الذي نهى الله عنه شرعا، ويبين عن خلل في السلوك وعدم استشعار لحقيقة الدنيا، وكونها لم تجعل للناس مقرا ومنزلا.

يقول الحافظ ابن رجب: "وفي قوله –صلى الله عليه وسلم-: (يتطاولون في البنيان) دليل على ذم التباهي والتفاخر خصوصا بالتطاول في البنيان، ولم يكن إطالة البناء معروفا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم وأصحابه-، بل كان بنيانهم قصيرا بقدر الحاجة".

وما قاله الحافظ حق، فقد كانت البيوت على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- على قدر الحاجة، وقد صور لنا الحسن رحمه الله بيوته عليه الصلاة والسلام حينما قال: "كنت أدخل بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في خلافة عثمان رضي الله عنه، فأتناول سقفها بيدي".

ومما يشار إليه في الحديث: أن التطاول في البنيان إنما حدث نتيجة لوفرة المال والغنى الحاصل، وقد تحقق هذا الأمر في عصرنا الحالي أكثر من ذي قبل، نتيجة للطفرة الاقتصادية الناشئة من اكتشاف النفط وتعدد الموارد الاقتصادية في الجزيرة العربية، وما سببه ذلك من الفائض المالي الكبير الذي أوجد الغنى في المنطقة.

وفي الختام نؤكد أن تطويل البنيان بحد ذاته ليس محلا للذم بحد ذاته، إلا أنه إخبار عن علامة للساعة قد وقعت في عصرنا ولعلها ستتجسد أكثر في المستقبل، ما لم يكن ذلك التطاول على وجه الإسراف والتبذير والتباهي، أو ناشيء من مال ربوي محرم، فهو الحال المذموم شرعا، والله الموفق.

 

مواد ذات صلة

المكتبة