زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي

1 2798

أخذت خلوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تزداد وتتسع وهو يقترب من الأربعين حيث أعده الله ـ سبحانه ـ لأول لقاء مع الوحي، من أجل تكليفه بالنبوة، وإخراج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، فكان يغادر مكة بين الحين والحين إلى غار حراء، فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكر، وهو غير راض لما عليه قومه من عقائد الشرك والعبادات الباطلة والأوهام الزائفة، التي لم تجد سبيلا إلى قلبه، ولم تلق قبولا في عقله، بسبب ما أحاطه الله به من رعاية وعناية لم تكن لغيره من البشر، فبقيت فطرته على صفائها، تنفر من كل شيء غير ما فطرت عليه، فكان اختياره - صلى الله عليه وسلم - لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له، ليعده لما ينتظره من حمل الأمانة الكبرى .

ولما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة - وهي رأس الكمال - بدأت آثار النبوة تلوح وتظهر، فكان أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوحي الرؤيا الصالحة، وتسمي أحيانا الرؤيا الصادقة، والمراد بها الرؤيا الطيبة التي ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح، والرؤيا الصالحة للمؤمن من البشرى في الحياة الدنيا، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: ( أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو ترى له ) رواه مسلم .

وفي رمضان من السنة الثالثة بغار حراء ظهرت بشريات الصبح وطلائع السعادة، وآن أوان البعثة، فتم أعظم لقاء في حياة البشرية، لقاء جبريل عليه السلام الذي يحمل أعظم رسالة، إلى أفضل رسول ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ ليغير وجه الحياة، ويأخذ بيد الإنسانية التائهة في ظلمات الشرك والظلم إلى نور التوحيد والعدل، والأمن والأمان .
يقول المباركفوري في الرحيق المختوم: " وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا، ويوافق 10 أغسطس سنة 610 م، وكان عمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و 12 يوما، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و 12 يوما " .

ولنستمع إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي تحدثنا عن بداية نزول وإشراق الوحي فتقول: ( أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوحي هو الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلوة، وكان يخلو في غار حراء، يتحنث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطنى الثالثة ثم أرسلني فقال: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الأنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم }(العلق3:1)، فرجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجف فؤاده، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ، فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة : لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عمها، وكان امرأ تنصر بالجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله له أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة : يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة : يا ابن أخي ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رأى، فقال له ورقة : هذا الناموس (جبريل عليه السلام) الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا (شابا)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟، قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي ) رواه البخاري .

وقد أجمع الصحابة - رضوان الله عليهم - على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعاني في أثناء نزول الوحي عليه شدة وصعوبة، يبقى على ذلك ما شاء الله، فلا يهدأ ولا يذهب عنه الروع إلا بعد انتهاء الوحي، فيجلس عندئذ وقد تصبب عرقا، ثم يتلو على من عنده من أصحابه ما أوحي إليه، ومن هنا يظهر كذب وافتراء المشركين وبعض المستشرقين من بعدهم الذين طعنوا وشككوا في حقيقة الوحي بقولهم: حديث نفس،أو: إشراق روحي وإلهام، أو: كان في المنام .

فالحقيقة تقول إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينيه، وهو يقول له اقرأ، فالوحي استقبال وتلق لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس والإلهام، ثم إن ضم جبريل إياه وإرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي، ومبالغة في نفي ما قد يتصور من أن الأمر لا يعدو كونه خيالا أو حديث نفس، مما يدعيه أعداء الإسلام ومن سار وراءهم، وقد قال الله تعالى تأكيدا لهذا المعنى: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الأيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }(الشورى:52) .

فائدة :

يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد: " كمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة :
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه - صلى الله عليه وسلم -، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ) .
الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها .
الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في [ النجم: 7، 13] .
السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.
السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن، وثبوتها لنبينا - صلى الله عليه وسلم - هو في حديث الإسراء " .

إن لحظة نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم- أعظم لحظة مرت على الأرض في تاريخها الطويل، إذ كانت ميلادا جديدا للبشرية، فببعثته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كمل للبشرية دينها، وتم للإنسانية نعيمها، فكان الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده جميعا، ولن يقبل الله من أحد دينا سواه، قال الله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا }(المائدة: من الآية3) ..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة