من أشرط الساعة .. قلة المعرفة بين الناس

3 1601

من يطالع كتب التراث لاسيما ما تعلق منها بأخبار العرب يجد في ثناياها السؤال عن الأنساب والأقوام، وكثيرا ما نقرأ في تلك الكتب عبارات تعكس هذه الحاجة البشرية من أمثال: "ممن القوم؟" "من الرجل؟" "انسب لنا نفسك" "من أي العرب أنت؟"، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مبلغ الاهتمام بقضايا الأنساب على وجه العموم، وعلى أن مبدأ التعارف بين الناس مبدأ أصيل وعادة عريقة لم يزل الناس يعملون بها منذ القدم.

ومن محاسن هذا الدين أنه جاء متناغما مع هذه الحاجة البشرية، ومع هذا التصرف الاجتماعي النبيل؛ نظرا لدوره البارز في زيادة لحمة المجتمع وتعميق أواصر المودة بين أفراده، شيئا فشيئا، حتى تغدو الأمة في تماسكها كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما ورد عن سيد المرسلين –صلى الله عليه وسلم-، وآثار ذلك على المدى البعيد لا تخفى على أحد، وحسبنا منها أن نجد من ثمارها: العالم حين يعلم الجاهل، والقوي حين ينصر الضعيف، وصاحب الخبرة حين يحرص على نشر الخير، وتعميم الفائدة، إلى غير ذلك من الصور المشرقة التي ما كانت لتكون لولا وجود البذرة التي نشأت منها هذه الشجرة الكبيرة وارفة الظلال: بذرة التعارف والتواصل.

وفي هذا السياق نجد آية ماثلة في الأذهان، تتعلق بما نحن بصدده من بيان أهمية التعارف ودوره، وجاءت الآية في قالب بديع يعطي موعظة، ويؤسس قاعدة، ويكشف سرا، ويقيم منهجا، إنها الآية الكريمة التي وردت في سورة الحجرات، قال الله تعالى:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} (الحجرات:13).

لقد جاءت الآية لترجع الناس إلى أصل واحد، وجنس واحد، من آدم عليه السلام وأمنا حواء، وبهما بدأ النسل البشري، ومع دوران عجلة التاريخ تكاثر الناس وتفرقوا في أرجاء المعمورة، ونتج عن ذلك وجود الشعوب والقبائل على اختلاف منابتها ومشاربها، وهذا التنوع الحاصل يستدعي ضرورة أن يتعرف بعضهم على بعض، والعلة في ذلك –كما يقول الشيخ السعدي- أنه لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوبا وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها، مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب،وفي هذه الآية دليل على أن معرفة الأنساب، مطلوبة مشروعة، لأن الله جعلهم شعوبا وقبائل، لأجل ذلك.

وما يفسد الناس إلا حينما يبتعدون عن الهدي النبوي الذي يحقق الغايات العظيمة، والمقاصد الجليلة، وتأتي مسألة ترك التعارف وعدم الحرص عليه، وما يقابله من وجود النفرة والتحفظ من مخالطة الآخرين، كنموذج للخلل في المنظومة القيمية، والذي سيكون في تحوله إلى ظاهرة بارزة وواقع ثابت في آخر الزمان، علما من أعلام النبوة، وأمارة من أماراتها.

وقد ورد في مسألة ترك التعارف بين الناس حديث ورد في السنن والمسانيد، رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فقد ذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الساعة، فقال: (علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو، ولكن أخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها، إن بين يديها فتنة وهرجا) ، قالوا: يا رسول الله، الفتنة قد عرفناها، فالهرج ما هو؟ قال: (بلسان الحبشة: القتل، ويلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد أن يعرف أحدا) رواه أحمد في مسنده.

أما المشاريط فهي أوائل الأمور، وهي الأشراط، والمقصود بها علامات الساعة، ومنه قول ابن الأعرابي:

                تشابه أعناق الأمور وتلتوي* مشاريط، ما الأوراد عنه صوادر

والتناكر بمعنى: التجاهل، يقال: تناكروا، نقيض تعارفوا، وهذه العلاقة اللغوية بين اللفظين وردت في حديث عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) رواه البخاري ومسلم.

إن فكرة الحديث النبوي الذي رواه حذيفة رضي الله عنه، تدور حول ما سيسود آخر الزمان من قلة معرفة الناس ببعضهم، وقلة التواصل الاجتماعي بين الأفراد وما يتسببه ذلك من التناكر والجهل المجتمعي، فلا يكاد الواحد منهم يعرف الآخر، وواقعنا يشهد بهذه القطيعة ويرى مظاهرها بشكل متفاوت من مجتمع إلى آخر.

ولعل ما قاد إلى هذا الواقع الاجتماعي السلبي، غزو الحياة المعاصرة وما جلبته المدنية، فإلى الماضي القريب كان الناس يسكنون القرى والبوادي ذات التماسك والترابط الكبير نظرا للتقارب الأسري الناتج عن المصاهرة والمناسبة، فلما بدأت المدن بالازدهار الاقتصادي، أحضرت معها فرص العمل المختلفة، وبدأت هجرة الناس من القرى إلى المدن لتصبح البنية السكانية لها: أخلاطا من قبائل وشعوب مختلفة، حتى كثرت الشكوى من أن الجار لا يكاد يعرف جاره.

ولم تقتصر التركيبة السكانية على أبناء الدولة الواحدة كما كان في السابق، ناهيك عن ضغط العمل، ونظام السكن في الشقق ونحوها، وتباين أوقات العمل صباحا ومساء، ولا ننسى عوامل الانكباب على الدنيا وتحصيلها، ونقص الولاء لله تعالى، وعدم الاهتمام بأمر المسلمين، كل ذلك أفرز ولا شك مظاهر التناكر التي حذر منها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

وتزداد هذه الصورة قتامة في المجتمعات الغربية التي ابتعدت عن شرع الله، حتى يصير مجرد السلام على الآخر دون معرفة مسبقة مثار العجب حينا، والاستهجان والريبة أحيانا، لأن علاقاتهم بالأساس قائمة على النفعية، وما يتولد عن ذلك من أمراض اجتماعية خطيرة كحب الذات والفردية والأنانية، فليس عندهم "ترف" في توسيع العلاقات بما لا يخدم مصالحهم ولا يحقق لهم نفعا ماديا، وكثيرا ما تفجأنا الأخبار في صحفهم وقنواتهم عن اكتشاف جثة متعفنة لمن مات في بيت دون أن يعلم جيرانه عنه شيئا!، فلا عجب –والحالة هذه- أن تشكو مجتماعتهم من حالات الاكتئاب والقلق والشعور بالضياع، وعدم القدرة على التكيف الاجتماعي.

والمشكلة تكمن في إلباس بعضهم لهذا الانطواء المذموم، بلبوس شرعي، فنجد من يستدل بقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} فيقتطعون الآية من سياقها: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} (المائدة: 105) ويتناسون الدعوة الواضحة إلى التعارف والصلات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر) رواه الترمذي وأحمد، ومعنى قوله: (منسأة في الأثر) يعني زيادة في العمر.

وهنا نقطة لابد من إثارتها، وحاصلها أن هذا التناكر الواقع في عصرنا الحاضر هو نسيان بأن الإنسان "كفرد" إنما هو ترس في آلة ضخمة، له ارتباطه الأسري والشعبي والأممي، فالإنسان ليس بنفسه، ولكن بمن حوله، فلابد من التواصل والتعارف في زمننا هذا أكثر من أي وقت مضى.

ويمكن القول بأن من أسباب التناكر في عصرنا، قلة الالتفات إلى بعض الآداب النبوية التي دعا إليها الإسلام، كإفشاء السلام ونشره، وصلة الأرحام والاهتمام بها، وحضور الجنائز وإجابة الدعوة، وعيادة المريض ولو عن غير سابقة معرفة، وغيرها من الأمور التي ارتقت من درجة الفضائل العامة إلى مستوى الحقوق الواجبة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رجلا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) متفق عليه.

وأخيرا: يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: (المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) رواه أحمد، فالمؤمن بنص الحديث موصوف بالألفة، يتداخل مع الناس بشكل سلس، ولا يجد الناس صعوبة في التعارف عليه، ولن يكون ذلك إلا بإزالة الحاجز الموهوم بينه وبين الناس، والله الموفق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة