الشرطة في النظام الإسلامي

0 1455

تعد الشرطة من الوظائف المهمة في الدولة الإسلامية، ومن أبرز معالمها في حياة المجتمع والناس، وتتمثل في الجند الذين يعتمد عليهم في حفظ الأمن والنظام، وتنفيذ أوامر القضاء بما يكفل سلامة الناس، وأمنهم على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، فهي بمنزلة جيش الأمن الداخلي.

الشرطة في عهد النبي والخلفاء الراشدين:
ولقد عرف المسلمون نظام الشرطة منذ النبي ، وإن لم تكن ممنهجة أو منظمة؛ فقد ذكر البخاري في صحيحه "أن قيس بن سعد ، كان يكون بين يدي النبي بمنزلة صاحب الشرط من الأمير".
وكان أول من سن نظام العس هو عمر بن الخطاب ، فكان يعس بالمدينة (أي يطوف بالليل) يحرس الناس ويكشف أهل الريبة.

ويمكن القول بأن الشرطة -كما ظهر سابقا- قد بدأت بسيطة في عهد الخلفاء الراشدين، ثم أخذت تتطور ويزداد تنظيمها في العصرين الأموي والعباسي، فبعد أن كانت أول الأمر تابعة للقضاء، وعملها يقوم على تنفيذ العقوبات التي يصدرها القاضي ثم انفصلت عن القضاء، وأصبح صاحب الشرطة هو الذي ينظر في الجرائم، كما صار لكل مدينة من المدن شرطة خاصة بها، تخضع لرئيس مباشر هو صاحب الشرطة، الذي كان له نواب ومساعدون يتخذون لأنفسهم علامات خاصة، ويلبسون زيا خاصا، ويحملون مطارد عليها كتابات تتضمن اسم صاحب الشرطة، ويحملون الفوانيس في الليل، ويصطحبون كلاب الحراسة.

الشرطة في الدولة الأموية:
وقد توسع معاوية بن أبي سفيان في اتخاذ الشرطة، وتطويرها، فأضاف إليها شرطة الحرس الشخصي، وكان أول من اتخذ الحرس في الحضارة الإسلامية ، وخاصة وقد اغتيل زعماء الدولة الإسلامية قبله: عمر، وعثمان، وعلي .
ولذلك فإن الشرطة في الخلافة الأموية كانت أداة تنفيذ لأمر الخليفة، وفي بعض الأحيان تعاظمت رتبة صاحب الشرطة حتى تولاها بعض الأمراء والولاة، ففي عام 110هـ عين خالد بن عبد الله على ولاية البصرة، وجمع معها منصب الشرطة .

وقد تنبهت الخلافة الأموية لخطورة هذا المنصب، وحيويته؛ ولذلك وضعت المعايير العامة التي يجب أن تتوفر في صاحب الشرطة؛ فقد قال زياد بن أبيه: "ينبغي أن يكون صاحب الشرطة شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون صاحب الحرس مسنا، عفيفا، مأمونا لا يطعن عليه".

ولذلك تطورت وظيفة صاحب الشرطة في العصرين الأموي والعباسي، ومن ثم قال ابن خلدون: "كان النظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس، والعبيديين بمصر والمغرب راجعا إلى صاحب الشرطة، وهي وظيفة أخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول، توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلا، فيجعل للتهمة في الحكم مجالا، ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، ويقيم الحدود الثابتة في محالها، ويحكم في القود والقصاص، ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة".

إذا ترقى صاحب الشرطة منذ عصر الخلافة الراشدة، وبداية عصر الخلافة الأموية من مهمة تنفيذ أوامر مؤسسة الخلافة إلى أن أصبح قادرا على النظر في الجرائم وإقامة الحدود؛ ولذلك اهتمت الدولة الإسلامية بتأسيس السجون، ووضع المجرمين وقادة الفتن والثورات فيها، فقد ذكر الطبري أن زياد بن أبيه وضع كثيرا من الثوار في السجون، وخاصة أصحاب ابن الأشعث، كقبيصة بن ضبيعة الأسدي.

الشرطة في الخلافة العباسية:
وقد أنفقت الدولة على بناء السجون من بيت المال؛ إذ كفت هذه السجون شر السجناء وأذاهم عن الناس، ولم يمنع هذا الأمر أن تنفق الدولة على هؤلاء المساجين، وترعى أحوالهم؛ ولذلك اقترح القاضي أبو يوسف على هارون الرشيد، تزويد المساجين، بحلة قطنية صيفا، وأخرى صوفية شتاء ، ولذلك كان الاهتمام بهم صحيا من أظهر الأمور.

وحرصت الخلافة العباسية على تعيين أصحاب الشرطة الموسومين بالعلم والتقوى والفقه، والذين لا تأخذهم في إقامة الحدود لومة لائم، فقد ذكر ابن فرحون في (تبصرة الحكام) "أن صاحب الشرطة إبراهيم بن حسين بن خالد، أقام شاهد زور على الباب الغربي الأوسط، فضربه أربعين سوطا، وحلق لحيته، وسخم وجهه ، وأطافه إحدى عشرة طوفة بين الصلاتين، يصاح عليه هذا جزاء شاهد الزور، وكان صاحب الشرطة هذا فاضلا، خيرا، فقيها، عالما بالتفسير، ولي الشرطة للأمين محمد، وكان أدرك مطرف بن عبد الله صاحب مالك وروى عنه موطأه".

ونتيجة لكفاءة بعض القادة العسكريين في الخلافة العباسية، فقد عين المأمون عبد الله بن طاهر بن الحسين قائدا لشرطة عاصمة الخلافة بغداد، بعدما أثبت جدارة عسكرية في حروبه وفتوحاته.
ولم تتوان مؤسسة الخلافة في عزل أصحاب الشرطة الفاسدين، الذين كانوا يتجاوزون في العقوبة، ولا يأخذون بالبينة، فقد أمر الخليفة العباسي المقتدر بالله بعزل صاحب شرطة بغداد محمد بن ياقوت، وعدم إشراكه في وظيفة في الدولة، نتيجة سوء سيرته وظلمه.

وكانت مهمة صاحب الشرطة في هذا العصر متعددة ومتنوعة، فقد جمع أصحاب الشرطة في معظم الولايات الإسلامية مع وظيفة استتباب الأمن، والأخذ على أيدي اللصوص والمفسدين، المحافظة على الآداب العامة؛ فقد أمر مزاحم بن خاقان والي مصر (ت 253هـ) صاحب شرطته أزجور التركي بمنع النساء من التبرج أو زيارة المقابر، وضرب المخنثين وندابات الجنائز، كما اهتم صاحب الشرطة بمنع الملاهي، ومحاربة الخمور.

وأما أصحاب الشرطة المقصرون في أداء مهامهم، فقد كان الخلفاء يجبرونهم على تصحيح أخطائهم بسرعة تامة، تداركا للأمر، ومنعا لانتشار ضرره بين العامة 
 فقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "الطرق الحكمية" حكاية تدلل على همة وذكاء صاحب شرطة الخليفة العباسي، خاصة في وقت الأزمات، إذ ذكر أن اللصوص سرقوا في زمن الخليفة العباسي المكتفي مالا عظيما، فألزم المكتفي صاحب الشرطة بإخراج اللصوص، أو غرامة المال؛ فكان صاحب الشرطة يركب وحده، ويطوف ليلا ونهارا، "إلى أن اجتاز يوما في زقاق خال في بعض أطراف البلد، فدخله فوجده منكرا...
 
فرأى على بعض أبوابه شوك سمك كثير، وعظام الصلب. فقال لشخص: كم يكون تقدير ثمن هذا السمك الذي هذه عظامه؟ قال: دينار. قال: أهل الزقاق لا تحتمل أحوالهم مشترى مثل هذا؛ لأنه زقاق بين الاختلال إلى جانب الصحراء، لا ينزله من معه شيء يخاف عليه، أو له مال ينفق منه هذه النفقة، وما هي إلا بلية، ينبغي أن يكشف عنها. فاستبعد الرجل هذا، وقال: هذا فكر بعيد. فقال: اطلبوا لي امرأة من الدرب أكلمها. فدق بابا غير الذي عليه الشوك، واستسقى ماء، فخرجت عجوز ضعيفة، فما زال يطلب شربة بعد شربة، وهي تسقيه، وهو في خلال ذلك يسأل عن الدرب وأهله، وهي تخبره غير عارفة بعواقب ذلك
 
إلى أن قال لها: وهذه الدار من يسكنها؟ - وأومأ إلى التي عليها عظام السمك - فقالت: فيها خمسة شباب أعفار ، كأنهم تجار، وقد نزلوا منذ شهر، لا نراهم نهارا إلا في كل مدة طويلة، ونرى الواحد منهم يخرج في الحاجة ويعود سريعا، وهم في طول النهار يجتمعون فيأكلون ويشربون، ويلعبون بالشطرنج والنرد، ولهم صبي يخدمهم، فإذا كان الليل انصرفوا إلى دار لهم بالكرخ، ويدعون الصبي في الدار يحفظها، فإذا كان سحرا جاءوا ونحن نيام لا نشعر بهم، فقالت للرجل: هذه صفة لصوص أم لا؟ قال: بلى. فأنفذ في الحال، فاستدعى عشرة من الشرط، وأدخلهم إلى أسطحة الجيران، ودق هو الباب، فجاء الصبي ففتح. فدخل الشرط معه، فما فاته من القوم أحد، فكانوا هم أصحاب الجناية بعينهم". وهذه الحكاية دليل على نباهة صاحب شرطة بغداد، وإنفاذه لأمر الخليفة على الفور.

وقد عرفت وظيفة صاحب الشرطة في معظم الدول الإسلامية، واتخذت أسماء مختلفة، فسمي صاحب الشرطة في إفريقية الحاكم، وفي عصر المماليك الوالي، وكانت الشرطة في الديار المصرية من أهم وظائف الدولة، وكان صاحبها من عظماء الرجال، فكان ينوب عن الوالي في الصلاة، وفي توزيع الأعطيات، وفي غير ذلك من الأعمال، وكان مقر الشرطة في مصر ملاصقا لجامع العسكر، وكانت تسمى الشرطة العليا ، وقد جرت العادة أن والي (صاحب) الشرطة يستعلم متجددات ولاياته من قتل أو حريق كبير، أو نحو ذلك في كل يوم من نوابه، ثم تكتب مطالعة جامعة بذلك، وتحمل إلى السلطان صبيحة كل يوم فيقف عليها.

الشرطة في الأندلس:
وابتكر الأندلسيون لمنصب صاحب الشرطة قسمين مهمين

فأما القسم الأول: فسميت بالشرطة الكبرى، وكان هدفها الضرب على أيدي أقارب السلطان ومواليه وأهل الجاه، ولصاحب الشرطة الكبرى كرسي بباب السلطان، وكان من المرشحين دائما للوزارة أو الحجابة، ولا شك أن ابتكار هذا المنصب ليدلل على أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة تحترم القوانين التشريعية، والأعراف المجتمعية، لا فرق فيها بين غني أو فقير، أو بين رئيس ومرؤوس.

وكان القسم الثاني: الشرطة الصغرى، وهي مخصصة للعامة وسواد الناس، وكان صاحب الشرطة في الأندلس يلقب بصاحب المدينة.

إن الحضارة الإسلامية حضارة بناءة مبتكرة، ولا شك أن منصب صاحب الشرطة كان موجودا بالفعل في الأمم السابقة؛ إذ أحوال المجتمعات وتشابك الأفراد يجعل مثل هذا المنصب ملحا في أي وقت وأي مكان، لكنه في الحضارة الإسلامية كان مغايرا كل المغايرة عما كان عليه عند الفرس أو الرومان؛ فقد أضاف المسلمون - كما رأينا - لهذا المنصب كل جديد، وجعلوه متقيدا بآداب الإسلام وتشريعاته.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة