من أشراط الساعة .. استفاضة المال

5 1620

المال له بريق ولمعان، وسحر وفتنة، وقدرته على خطف القلوب لا تخفى على أحد، وطبيعة النفس البشرية مركبة على الشغف بالمال واستهواء خضرته، كما قال سبحانه وتعالى: {وتحبون المال حبا جما} (الفجر:20) أي: حبا كثيرا شديدا، وجاء فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أفسد لها من حرص المرء على المال) رواه الترمذي.

وقد وصل هذا الافتتان بالبعض أن يكون عبدا للمال: (تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض) رواه البخاري، وليست هذه بعبودية الركوع والسجود، ولكن عبودية القلب، وجعل المال منطلقا للمحبة والرجاء والخوف.

إذن فهذا الموقف من المال هو المتوقع من ابن آدم، ألا يدع فرصة يستكثر فيها من المال إلا وانتهزها، ولا يملأ جوفه إلا التراب، فإذا سمعنا بعد ذلك عن أحد عرضت عليه الأموال بالمكاييل، والذهب والفضة والمجوهرات بالمثاقيل، فلم يلق لها بالا، ولم يلتفت إليها أصلا، علمنا أن شأنا استجد فاستدعى هذه المغايرة في الطباع، وهذا الانقلاب في الموازين، ومثل هذا يكون قبيل قيام الساعة.

هذه هي الحقيقة، ولها جانبان سنجد حضورهما وتجلياتهما في عدد من أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-، أما الأول: فطغيان المال وكثرته، والثاني: فإعراض الناس عن قبوله وأخذه، ومع أول الأحاديث التي تذكر ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي) رواه البخاري.

فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فيفيض)، بمعنى أن يزيد عن الحاجة، وهذه الكلمة مأخوذة من الفيض وهو زيادة الماء عن امتلاء الإناء، ومعنى (يهم) يحزنه ويقلقه ويشغل قلبه، ورب المال صاحبه، ومعنى: (لا أرب لي) أي لا حاجة لي بالمال .

فأخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق بكثرة المال في آخر الزمان، وأنه سوف يصل الحال بالإنسان ألا يجد من يقبل صدقته، حتى يحصل له من ذلك هم، وما ذلك إلا لكثرة المال واستفاضته.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحدا يأخذها منه) رواه مسلم.

والمشهد السابق يتضمن حالة تكون في آخر الزمان، حين يتردد الإنسان بالمال بين الناس ويطوف به، فلا يجد من يقبلها، هذا إذا كان حال الذهب أعز المعادن وأكثرها قيمة اقتصادية: لا يقبله أحد، فكيف الظن بغيره من الأموال؟.

وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه؛ قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (تصدقوا؛ فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته؛ فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس؛ لقبلتها، فأما اليوم؛ فلا حاجة لي بها) رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (تقيء الأرض أفلاذ كبدها، أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا) رواه مسلم.

والمقصود بقوله –صلى الله عليه وسلم-: (تقيء الأرض أفلاذ كبدها) أن تخرج الأرض ما في الأفلاذ جوفها من الكنوز المدفونة فيها، كما قال جل ذكره: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة:2)، وتكون هذه القطع عظيمة وكبيرة، ولذلك عبر عنها النبي عليه الصلاة والسلام بالأسطوان،وهي السارية والعمود ونحوهما، ويقف أمام تلك الكنوز فئات من البشر وقفة اتعاظ، تشمل القاتل الذي قتل لأجلها، والسارق الذي قطعت يده بسببها.

ومن دلائل الاستفاضة والكثرة، ما بشر به النبي –صلى الله عليه وسلم- من الفتوحات، وذلك قوله: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) رواه مسلم، و المراد بالكنزين: الذهب والفضة.

ونحن نشهد تجليات هذه النبوءة في التاريخ، وستظهر أكثر في آخر الزمان، أما أول تلك التجليات: فما حدث في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من فتوحات فرس والروم، فحينما فتحت المدائن وجدوا في خزانة كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار –هكذا جاء التعبير في كتب التاريخ بتكرار كلمة ألف ثلاث مرات!- فأخذوا من ذلك ما قدروا عليه، وتركوا ما عجزوا عنه، وحين دخل سعد رضي الله عنه إيوان كسرى تلا قوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون* وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك* وأورثناها قوما آخرين}  (الدخان: 22-25)، ومثل هذه الكنوز العظيمة تقال عن فتوحات الروم.

وحينما تولى الخليفة الراشد المهدي: عمر بن عبدالعزيز، وأقام في الناس ميزان الشريعة، وحكم بين الناس بالعدل، استطاع في في أقل من ثلاث سنين أن يملأ خزانة الدولة، حتى أن الرجل كان يعرض ماله للصدقة فلا يجد من يقبل صدقته.

ومنه ما سيحدث في آخر الزمان من كثرة المال، زمن المهدي المنتظر وعيسى النبي عليه السلام، ودلائل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحا) رواه الحاكم في المستدرك وصححه الإمام الذهبي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن في أمتي المهدي، يخرج يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا ، فيجيء إليه رجل فيقول: يا مهدي، أعطني أعطني، فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله) رواه الترمذي في السنن وأحمد في المسند.

وأما عن زمن عيسى عليه السلام، فقد جاء في صحيح مسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: (..ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم صلى الله عليه وسلم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) رواه مسلم.

وبعد سماع هذه الأخبار عن الصادق المصدوق، لا ينبغي للمسلم أن ينسى أن استفاضة المال أو حتى قلته إنما هو محض اختبار من الحكيم العليم، أما الحياة الحقيقية الدائمة فهي دار القرار، والتي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {والآخرة خير وأبقى} (الأعلى:17).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة