من أشراط الساعة .. كثرة الزلازل

2 1439

تسجيل وثائقي مصور، يظهر في شريطه منظرا يبعث في النفس الراحة والطمأنينة، ترى فيه جمال الحدائق في المدن العامرة، وحركة السكان الكثيفة التي جعلت النهار معاشا، والسعي في الصباح نحو الأرزاق بركة، ومناظر أخرى تشكلت من ألوان الطيف كلها لا تقل صفاء وروعة وبهاء، فإذا بالأمر الإلهي يتنزل: "كن"، فلا يفصل بين الأمر وتحققه شيء من الزمن يذكر، وبين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال.

تغيض الألوان الزاهية لتحل محلها ألوان البؤس والحرمان الباهتة، لتبرز حجم الكارثة التي حصلت: بيوت مهدمة، وأشلاء ممزقة، وجثث متحللة، ورائحة الدمار، وألسن النيران تلتهم البقية الباقية من بسط الأرض الخضراء، وأناس حيارى قد اعترتهم الصدمة القاسية، يذهبون ولكن إلى غير مكان، يتوجهون ولكن إلى غير مقصد، سكارى ولكن بخمرة المصيبة وقارعتها، وبعد هذا الوصف المجتزأ للمشاهد المروعة التي تضمنها ذلك التسجيل الوثائقي، نصوب النظر إلى عنوانه فإذا هو: الزلازل الأرضية.

هذه هي صورة الكرب الإنساني المعروف باسم الزلازل، وهي حركة الأرض واهتزازها نتيجة للضغط المخزون فيها والمتراكم عبر الوقت والحاصل بسبب حركة الصفائح الأرضية طيلة الوقت كما يقول علماء الجيولوجيا، ولن ينحو الحديث منحى بيان أسباب هذه الظاهرة الكونية أو تاريخها، بل سنذكر ارتباطها بنبوات رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

لقد جاءت عدد من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تبين أن كثرة الزلازل في آخر الزمان ستكون علامة واضحة وبرهانا ظاهرا على قرب قيام الساعة قربا شديدا، كمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن) رواه البخاري، والزلازل: جمع زلزلة، وهي حركة الأرض واضطرابها، ومعنى: (يتقارب الزمان): تقل بركته، وتذهب فائدته.

وعن سلمة بن نفيل السكوني رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (بين يدي الساعة موتان شديد، وبعده سنوات الزلازل) رواه أحمد، والمقصود بالموتان: كثرة الموت وانتشاره.

وعن عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عنده فخاطبه قائلا: (يا ابن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) رواه البخاري.

والظاهر المتبادر إلى الذهن هو تفسير الزلازل بمعناها الحقيقي المتعارف عليه، وقد نجد في بعض كتب أهل العلم من يفسر الزلازل بالفتن، والحروب الواقعة في آخر الزمان لكثرة الحركة فيها، وقد بين الإمام ابن رجب الحنبلي بعد هذا التفسير عن الصواب فقال: "وأما كثرة الزلازل، فهو مقصود البخاري في هذا الباب من الحديث، والظاهر: أنه حمله على الزلازل المحسوسة، وهي ارتجاف الأرض وتحركها، ويمكن حمله على الزلازل المعنوية، وهي كثرة الفتن المزعجة الموجبة لارتجاف القلوب، والأول أظهر؛ لأن هذا يغني عنه ذكر ظهور الفتن" وقول الإمام يتوافق مع سياق الأحاديث التي فصلت بين الحديث عن الفتن وعن الزلازل، ثم إن منهج العلماء أن يبقى اللفظ على معناه الظاهر دون صرفه إلى معنى غيره من غير قرينة تسوغ لنا ذلك.

وليست المسألة متعلقة بمجرد حدوث الزلازل، فالتاريخ يشهد بحدوثها على فترات من الزمن، يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: "وقد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل، ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها: شمولها ودوامها".

وبالنسبة لنا: فإن ظهور الزلازل والآيات وعيد وتخويف من الله تعالى لأهل الأرض، كما قال سبحانه: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (الإسراء: 59)، وهي جارية على القانون الإلهي من تمحيص أهل الإيمان وابتلائهم، والغضب على أهل العصيان ومعاقبتهم، يراد منه التنبيه والتذكير بعواقب الذنوب، وضرورة التوبة والأوبة واللجوء إلى الله تعالى، وهذه النظرة العقدية المتوازنة شديدة الوضوح في السياقات القرآنية والأحاديث النبوية، ولذا نجد الربط بين أنواع العذاب وأعمال العباد في مثل قوله تعالى: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (العنكبوت:40)، والربط بين البلاء وتكفير الذنوب في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه) متفق عليه واللفظ للبخاري.

وهذا الوضوح العقدي، هو الذي جعل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين زلزلت المدينة في أيامه: "يا أهل المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم" ففسر هذه الزلزلة بتقصير أهل المدينة ووجود المعاصي، فخشي أن تعمه العقوبة بسببهم.

وبالنسبة لأرباب المدنية المعاصرة: فالزلازل ليست سوى تحركات في القشرة الأرضية والتواءات في الطبقات الصخرية ليس لها بعد غيبي أو كما يعبرون عنه: "ميتافيزقي"، وأنه يمكن التنبؤ بمكان حدوث الزلازل وتحديد نطاقات الأحزمة الزلزالية، والتصور التقريبي غير الدقيق لموعد حدوث الزلازل، وكأننا نرى سورة الأنعام تفضح حالهم وتبين حقيقتهم: { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} (الأنعام:43).

والرد عليهم يكون ببيان أن كل ما يجري في الكون من أحداث ومتغيرات إنما هو جار على سنن إلهية معلومة، والكون ناشيء على وفق قانون السببية، لكن معرفة هذه القوانين التي يسير الكون على وفقها لا تنفي وجود غايات غيبية يريدها خالق الكون ومدبره، ونحن المسلمين المؤمنين بالشريعة الربانية ما ذكرنا هذه الأسباب الغيبية لحدوث هذه الزلازل استنتاجا ولا من خلال دراسة ميدانية تجريبية، ولكنه قبس من العلم مأخوذ من الحكيم العليم الذي بين لنا هذه القضية وربطها بالرابط المعنوي، ولا كلام بعد كلام من له العلم الكامل سبحانه وتعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد*سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} (فصلت:52-53). 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة