اللهمَّ اهْدِ ثَقِيفاً

0 1492

ها هي مكة تقف عقبة في سبيل الدعوة الإسلامية، وها هم سفهاء قريش قد أسرفوا في إيذاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والصد عن سبيل الله بعد تكالب المحن والشدائد عليه، من موت عمه أبي طالب الذي كان يحميه، وزوجته خديجة ـ رضي الله عنها ـ، التي كانت تواسيه وتخفف عنه آلامه .. ومع ذلك فقد مضى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تبليغ دعوته ورسالته، فعزم على أن ينتقل إلى بلد غير بلده، وقوم غير قومه، وهو في ذلك يقتدي بالأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، فدعا سرا وجهرا، وبشر وأنذر، ودعا إلى الله في كل وقت وحال .

توجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جهة الطائف حيث توجد ثقيف عسى أن يجد منهم من ينصر الإسلام، ويحمي الدعوة الجديدة، فخرج إليها في شوال في السنة العاشرة من البعثة، ومعه مولاه زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ، فأقام بها مدة يدعو ثقيفا إلى الله تعالى، فلم يجد آذانا صاغية، وكان ممن قابلهم ثلاثة من أشرافهم: ابن عبد ياليل، ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير، وكانوا سادة ثقيف وأشرافها .
فقال له ابن عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط (سيقطع) ثياب الكعبة إن كان الله أرسله، وقال مسعود: أما وجد الله أحدا غيرك؟!، وقال حبيب: والله لا أكلمك أبدا، إن كنت رسولا لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك .
فمكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرة أيام يدعو في الطائف، فما ترك أحدا إلا كلمه في الإسلام، ورغم ذلك فقد اجتمع أهل الطائف على تكذيبه، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم، وجعلوا يقذفونه بالحجارة، حتى سالت الدماء من قدميه الشريفتين، وشجت رأس زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ .

وقد سألت عائشة ـ رضي الله عنها ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلة: ( يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (ميقات أهل نجد)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري .

إن هذا الموقف من أعجب مواقف السيرة النبوية، فالله ـ عز وجل ـ أرسل جبريل ومعه ملك الجبال، ليأتمر بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويطلب منه الموافقة على إهلاك القوم الذين كذبوه وسبوه، وآذوه بالقول والفعل، ومع ذلك فهلاكهم على الشرك لا يسر ولا يرضي ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وذلك لأنه أشد حرصا عليهم من أنفسهم، فيرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ملك الجبال دون تردد قائلا : ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) .

وتمر الأيام، وتظل ثقيف على كفرها وعنادها، واشتركت مع هوازن في الحرب ضد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في موقعة حنين، وانتهت الموقعة بهزيمتهم وفرارهم إلى مدينتهم الطائف، وذهب إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحاصرها حصارا شديدا مدة شهر كامل، لكنه لم يتمكن من فتحها، لمناعة حصونها، فقرر أن يتركها، وحزن الصحابة لذلك، وقالوا: يا رسول الله، أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اللهم اهد ثقيفا ) رواه الترمذي .

لقد كانت إصابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد أبلغ من الناحية الجسدية، أما من الناحية النفسية فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد، ومع ذلك رفض إهلاك من آذاه، فقد كانت نظرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، نظرة مستقبلية فيها أمل وشفقة، شفقة عليهم ، وأمل في أن يكون منهم ومن أبنائهم من يحمل راية الإسلام عالية خفاقة، وكان ما رجاه وأمله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

إن المتأمل في سيرة وحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومواقفه مع أصحابه وأعدائه ليدرك عظمة أخلاقه، ونبل صفاته، ولا يستغرب أفعاله، ولا يتعجب من مواقفه، فهو أحلم الناس وأعفاهم عن جاهل ، وكان حلمه وعفوه دائما عجيبا يفوق الحد الذي يتصوره الإنسان، خاصة وأن عفوه كان مع القدرة على البطش والانتقام ممن أساء إليه، لكنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان يقول عمن آذاه وأساء إليه: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، ويقول : ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا )، ويقول : ( اللهم اهد ثقيفا ) .

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة