من أشراط الساعة .. ظهور النفاق

5 1700

"الليلة ليست أشبه بالبارحة"، لعل هذه العبارة تلخص الغضب العارم والحقد الدفين في نفس عبدالله بن أبي بن سلول، زعيم الأوس والخزرج، والملك المتوج للفريقين اليمانيين، لو لم يحضر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.

وشتان بين الليلة والبارحة، فبعد صراعات دموية وحروب طاحنة كتبت صفحاتها بدماء شباب المدينة وفتيانها، اتفق العقلاء على تنصيب ابن أبي رئيسا وزعيما، ورحب المجتمع اليثربي بهذا المقترح الحاقن للدماء، وأصبح الكرسي قاب قوسين أو أدنى، وكاد صولجان الملك أن يلامس اليدين السلوليتين لولا أن تبخرت هذه الأحلام بحرارة الدعوة الإسلامية القادمة من مكة، وانقطع حبل الأمل تماما بموت صناديد قريش يوم بدر، حينها قال ابن أبي: "هذا أمر قد توجه"، وأعلن حامل لواء النفاق وصاحب براءة اختراعه الإسلام ظاهرا، والكفر باطنا، والمكر والدسائس والتخريب مسلكا: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} (المنافقون: 2).

لقد افتتح عبدالله بن أبي بوابة النفاق، فدخلته أفواج المنافقين التي لم تتوقف عبر العصور متغلغلة صفحاته، وناسجة خيوط المؤامرات والفتن في جنباته، هذا أمر يعرفه ويدركه كل دارس لتاريخ الدول والامبراطوريات والممالك، لكن القضية المحورية هنا هو الظهور والانتشار لمسلك النفاق كي يصبح علامة جديدة من علامات قرب قيام الساعة، كما أخبر عنها من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام.

وفي هذا الصدد ورد حديث واحد يلحق مسألة "ظهور النفاق" بأشراط الساعة وأماراتها، يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا: يظهر النفاق، وترفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويتهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين. أناخ بكم الشرف الجون) قالوا: وما الشرف الجون يا رسول الله؟ قال: (فتن كقطع الليل المظلم) رواه ابن حبان.

والشرف كما يحكي أرباب اللغة: جمع شارف، وهي الناقة المسنة، والجون: جمع جون، وهو الأسود، يقول الإمام ابن الأثير بيانا لسبب هذا التشبيه: "شبه الفتن في اتصالها وامتداد أوقاتها، بالنوق المسنة السود".

ست من الأشراط نثر النبي -صلى الله عليه وسلم- سهامها بين يدي حديثه، وكل واحد منها يدمي القلب، ويكسر الخاطر، ويقلب الأوجاع؛ لما تدل عليه من سوء العاقبة، واختلال الموازين، وتبدل الأحوال، ست من العلامات لو رآها الصحابة رأي العين، وشاهدوها بالمقل، لجرت الدموع من مآقيها، ولجفت دواعي السرور والضحك من هول فداحتها: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا)، ولعل في تقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- لمسألة ظهور النفاق دلالة على عظم خطرها، وشديد بأسها.

أما نحن فنقول: التاريخ يعيد نفسه، فمكائد المنافقين ودسائسهم، وحيلهم ومؤامراتهم، وأوصافهم وأخلاقهم، وأساليبهم وطرائقهم، ما تجاوزت وصف القرآن لها قيد أنملة، وما اعتراها تغيير رغم تطاول الأزمان وتباعد الأمصار، فنفاق اليوم هو نفاق الأمس وإن تغيرت الأسماء، وتجددت الأدوات، وتبدلت الجلود، فالمنافقون يظهرون الإخلاص، ويتمنون من حكم الإسلام الخلاص: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون * وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} (البقرة:8-11)، يقول قتادة: "هذا نعت المنافق، نعت عبدا خائن السريرة، كثير الإخلاف، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، ويصدق بلسانه، ويخالف بعمله، ويصبح على حال، ويمسي على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة، كلما هبت ريح هب فيها".

منافقوا اليوم: يزعمون الإصلاح، ويتمسحون بالوطنية، هم الذين يرفضون التحاكم إلى الشرع حينما يخالف أهواءهم ورغباتهم: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} (النساء: 60)، ولا يجدون فرصة يلمزون فيها أهل الاستقامة إلا استغلوها وانتهزوا فرصتها، ويدعون إسلاميتهم وأنهم يصلون ويصومون كما يفعل المسلمون، وأقوالهم تنطق بالكفر، وأفعالهم تهدم أصل المعتقد: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون} (البقرة:14).

قلوبهم متحجرة صلدة لا تنبتها أمطار الإيمان: {كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا} (البقرة: 264)، أنهم أهل إرجاف وتخويف، وتثبيط للعزائم، وقتل للهمم، متفننين في بذر الشقاق وإحداثه، قاتلهم الله أنى يؤفكون.

ونحن نرى في هذا العصر انحرافات أهل النفاق ونلمس أثرهم في إحداث الوهن الحضاري، وكيف يديرون الأحداث لحسابهم، ونسمع أصوات شياطينهم عبر وسائل الإعلام، مدركين ما يقومون به من خداع المؤمنين، وإيهام البسطاء بمشاريعهم "الإصلاحية والوطنية" كما يريدون تصويرها وتسويقها، والحديث في ذلك طويل لا يتسع المقام لذكره، وإنما القصد فيه إبراز مدى التطابق بين إخبار النبي –صلى الله عليه وسلم- وبين الواقع المعاصر.

وعزاء المؤمنين في معركتهم الطويلة مع النفاق والمنافقين، أنهم ومهما صنعوا من مساجد الضرار، ومهما ابتكروا من وسائل للخداع، ومهما سيطروا من وسائل للإعلام، فإن الله مع المؤمنين، ولن يضرهم كيد أهل النفاق بإذن الواحد الأحد، والمطلوب من المؤمنين هو بذل الأسباب والوعي بطبيعة العدو الداخلي، والنظر الثاقب لتصرفاتهم، أما دين الله فمنصور ولو كره أصحاب الدرك الأسفل من النار، وليغلبن مغالب الغلاب -سبحانه وتعالى-.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة