لا تقولوا: خيبة الدهر

1 1216

كان أهل الجاهلية يضيفون المصائب والنوائب إلى الدهر، ويسمون بعض الأشياء بغير أسمائها، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، أرشدهم ووجههم إلى صحيح القول والمعتقد، وبين يدينا اليوم أحد هذه التوجيهات النبوية الجليلة.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسموا العنب الكرم، ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر) متفق عليه، وفي لفظ مسلم: (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر).

شرح الحديث

أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى أمته عن بعض الألفاظ والعبارات والمعتقدات التي قد توقعهم في المحظور والإثم، فقال: (لا تسموا العنب الكرم)، وذلك أن لفظة "الكرم" كانت تطلق على شجر العنب، وعلى العنب، وعلى الخمر المتخذة من العنب -سموها كرما لكونها متخذة منه ولاعتقادهم أنها تحمل على الكرم والسخاء-، فكره النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق هذه اللفظة على العنب وشجره، لأنهم إذا سمعوا اللفظة ربما تذكروا بها الخمر وهيجت نفوسهم إليها فوقعوا فيها أو قاربوا ذلك.

قال الإمام الخطابي ما ملخصه: إن المراد بالنهي تأكيد تحريم الخمر بمحو اسمها، ولأن في تبقية هذا الاسم لها تقرير لما كانوا يتوهمونه من تكرم شاربها، فنهى عن تسميتها كرما.

وقال الإمام ابن الجوزي: "إنما نهى عن هذا، لأن العرب كانوا يسمونها كرما لما يدعون من إحداثها في قلوب شاربيها من الكرم، فنهى عن تسميتها بما تمدح به لتأكيد ذمها وتحريمها".

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر) الخيبة - بفتح الخاء - : الحرمان، وقد كان أهل الجاهلية يضيفون المصائب والنوائب إلى الدهر الذي هو مر الليل والنهار، وهم فى ذلك فريقان:

- فرقة لا تؤمن بالله ولا تعرف إلا الدهر "الليل والنهار" اللذين هما محل للحوادث وظرف لمساقط الأقدار، فنسبت المكاره إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن لها مدبرا غيره، وهذه الفرقة هى الدهرية التى حكى الله عنهم: {وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} (الجاثية: 24).

- وفرقة ثانية تعرف الخالق فتنزهه أن تنسب إليه المكاره فتضيفها إلى الدهر والزمان.

وعلى هذين الوجهين كانوا يذمون الدهر ويسبونه، فيقول القائل منهم: ياخيبة الدهر، ويابؤس الدهر، فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم مبطلا ذلك من مذهبهم: (لا تسبوا الدهر) على أنه الدهر، (فإن الله هو الدهر) أي لا تسبوا الدهر على أنه الفاعل لهذا الصنع بكم، فإن الله هو الفاعل له، فإذا سببتم الذى أنزل بكم المكاره رجع السب إلى الله وانصرف إليه.

وفي لفظ قدسي: (أنا الدهر) أي أنا ملك الدهر ومصرفه، فحذف اختصارا للفظ واتساعا في المعنى.

حكم لوم الدهر وسبه

لوم الدهر وسبه ينقسم إلى أقسام ثلاثة، كما ذكر الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى، وهي:

"الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم; فهذا جائز مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك; لأن الأعمال بالنيات، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام: {هذا يوم عصيب} (هود: 77).

الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر، فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا; لأنه نسب الحوادث إلى غير الله، وكل من اعتقد أن مع الله خالقا فهو كافر، كما أن من اعتقد أن مع الله إلها يستحق أن يعبد فإنه كافر.

الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاده أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده، فهذا محرم ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين; لأن حقيقة سبه تعود إلى الله سبحانه; لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر، ويكون فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر فاعلا، وليس هذا السب يكفر; لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة"، وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة