التربية بالقدوة في السيرة النبوية

0 1920

التربية بالقدوة من أهم وأمثل الطرق في ترسيخ المبادئ والأخلاق وتربية الأجيال، وهي طريقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالمناهج والنظريات التربوية في حاجة دائمة إلى من يطبقها ويعمل بها، وتظل تلك المناهج نظرية ـ فقط ـ، ولا تحقق جدواها ما لم تتحول إلى سلوك عملي للمربين أنفسهم، ولذا كان المنهج النبوي في إصلاح البشرية وهدايتها يعتمد على وجود القدوة التي تحول تعاليم ومباديء الإسلام إلى سلوك عملي، وحقيقة واقعة أمام الناس جميعا، ولذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إذا أمر بشيء عمل به أولا، وإذا نهى عن شيء كان أول المنتهين عنه، فكان - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة والأسوة العملية التي تترجم الإسلام إلى حقيقة وواقع، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب:21)، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " الآية أصل كبير في التأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أقواله وأفعاله وأحواله ".

وقال ابن حجر في كتابه ( الإصابة ) حين عرف بالصحابي الجلندى ملك عمان: " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إليه عمرو بن العاص يدعوه إلى الإسلام، قال الجلندى: لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر ( لا يتلفظ بقبيح )، وأنه يفي بالعهد وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي" .

وهذه بعض من المواقف التربوية بالقدوة من حياة وسيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - :

النحر والحلق للتحلل من عمرة الحديبية :

لما صد المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح مع قريش، كان وقع ذلك عظيما على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أمرهم - عليه السلام - بنحر ما معهم من الهدي ليحلوا من إحرامهم، ترددوا مع شدة حرصهم على طاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهنا يتجلى الأثر العظيم للقدوة، إذ أشارت أم سلمة - رضي الله عنها ـ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم هو أولا فينحر ويحلق شعره، لأن صحابته سيقتدون به عند ذلك لا محالة، روى الإمام أحمد بسنده من طريق المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم - رضي الله عنهما - قصة صلح الحديبية في حديث طويل، ذكر فيه أنه لما تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( يا أيها الناس انحروا واحلقوا، قال: فما قام أحد، قال: ثم عاد بمثلها، فما قام رجل حتى عاد بمثلها، فما قام رجل، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل على أم سلمة فقال: يا أم سلمة ! ما شأن الناس؟، قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنسانا، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق فلو قد فعلت ذلك، فعل الناس ذلك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون ) .

القدوة في العبادة :

أداء العبادة أمام الأطفال والصغار من أساليب تعليمهم وتربيتهم على أدائها صحيحة، بحسب الكيفية التي أدى بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه العبادة، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يجعل لبيته نصيبا من صلاة السنن، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا) رواه مسلم .

وفي قصة ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ وصلاته مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيد على التربية بالقدوة في العبادة، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الليل فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا، وقام يصلي، قال: فقمت فتوضأت نحوا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله ) رواه البخاري .

ومن عبادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال أنس ـ رضي الله عنه ـ حين سئل عن صوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ( كان يصوم من الشهر حتى يرى أنه لا يريد أن يفطر منه، ويفطر حتى يرى أنه لا يريد أن يصوم منه شيئا، فكنت لا تشاء أن تراه من الليل مصليا، إلا رأيته مصليا، ولا نائما، إلا رأيته نائما ) رواه الترمذي .

القدوة في الكرم :

عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الإسلام شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم اسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة (الفقر) ) رواه مسلم .
وعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل ) رواه البخاري .

القدوة في العفو :

على الرغم من تعدد أشكال الأذى البدني والنفسي الذي تعرض له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أنه ضرب المثل الأعلى والقدوة الحسنة ـ للمسلمين عامة، وللمربين والدعاة خاصة ـ في العفو عن المسيء، والصفح عن المخطيء، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ( غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة قبل نجد، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاه (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟، قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟، قال: قلت: الله، فشام السيف (رده في غمده) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبه وجلس ) رواه البخاري .

ومن أعظم مواقف القدوة في العفو موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة، بعدما أخرجوه منها وآذوه أشد الإيذاء، ونصره الله عليهم، قام فيهم قائلا: (ما ترون أني فاعل بكم ؟!، قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: {قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} (يوسف:92)، اذهبوا فأنتم الطلقاء) رواه البيهقي.

القدوة بالحلم :

الحلم صفة مهمة للداعية والمربي، ولذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لا تستفزه الشدائد، ولا تغضبه الإساءات، فقد اتسع حلمه حتى جاوز العدل إلى الفضل مع من أساء إليه وجهل عليه، وفي ذلك قدوة وتربية عملية لأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ على الحلم، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنت أمشي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ، ثم أمر له بعطاء ) رواه البخاري .

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( خدمت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ عشر سنين، لا والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي أف قط ، ولا قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته ) رواه أحمد .

المسجد النبوي، وغزوة الأحزاب :

شارك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بناء المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وأسهم بنفسه في العمل جنبا إلى جنب مع المهاجرين والأنصار، وعندما رأى الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ رسولهم الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطيهم القدوة العملية في العمل، ويجهد كما يجهدون، نشطوا في أداء المهمة بهمة عالية، وعزيمة لا تلين .

وفي غزوة الأحزاب أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك القدوة العملية في مشاركته لأصحابه التعب والعمل، والآلام والآمال، فقد تولى المسلمون وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، المهمة الشاقة في حفر الخندق، وكان لمشاركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفعلية، لأصحابه الأثر الكبير في الروح العالية التي سيطرت عليهم، فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أثناء حفره يردد، أبيات عبد الله بن أبي رواحة ـ رضي الله عنه ـ :
                    اللهم لولا أنت ما اهتدينا        ولا تصدقنا ولا صلينا
                     فأنزلن سكينة علينا           وثبت الأقدام إن لاقينا
                    إن الألى قد بغوا علينا         وإن أرادوا فتنة أبينا

والمسلمون يردوا عليه قائلين:
 
                   نحن الذين بايعوا محمدا      على الإسلام ما بقينا أبدا

وفي ذلك تعليم وتربية للقادة والمربين ألا يتميزوا عن غيرهم، وأن يعطوا القدوة بفعلهم، فإعطاء الناس القدوة في مشاركتهم عمليا في آلامهم وآمالهم يرفع قيمة المربي والقائد والداعية لديهم، إذ يشعرون أنه واحد منهم، وذلك يدفعهم لمزيد من البذل والهمة، والسمع والطاعة، ويشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المربي والمربى والمجتمع كله، وقد عبر عن هذه المعاني أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنشادهم :
            
                لئن قعدنا والنبي يعمل           لذاك منا العمل المضلل

تعتبر السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها مدرسة نبوية متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من المعاني التربوية العظيمة، التي تضع للدعاة والمربين منهج التربية الصحيح، وتبين لهم وسائل الإصلاح ـ للفرد والمجتمع ـ، والتي منها التربية بالقدوة والأسوة الحسنة، قال الله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب:21) ..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة