- اسم الكاتب:ياسر عبد التواب
- التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيجب على الداعية المنصف أن يتأدب مع المخالفين، وأن يتسع صدره لانتقاداتهم، والتي قد لا تكون منصفة بدورها، فهم وإن عصوا الله -تعالى- فيه فلا يبرر ذلك أن نبادلهم معصية بأخرى.
وقد بلغ الإنصاف بالإمام ابن تيمية -رحمه الله- أن اتسع صدره لمن كفره وبدعه وفسقه، فيقول في كلام بديع:
"وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير، أو تفسيق، أو افتراء، أو عصبية جاهلية؛ فأنا لا أتعدى حدود الله فيهن، بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه، قال الله -تعالى-:
{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (البقرة:213)، وقال -تعالى-: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (النساء:59)، وقال -تعالى-: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد:25).
وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل:128)".
ومن الأدب مع المخالفين: أن يتورع المسلم عن لمزه أو الإساءة إليه بأي صورة من الصور، ولا سيما إن كان ذلك يجره إلى التقول عليه بغير علم، أو رميه بما ليس فيه، فإن صفة المؤمنين هي أن ينزهوا أنفسهم عن الصيد في الماء العكر، واستغلال الفرص للإساءة للمخالفين.
ويأتينا الدرس هنا من النساء، وقد اعتدنا في دنيا النساء على التخليط وترديد الإشاعات، والنيل من المخالفات عن طريق الغيبة، والوقوع في الأعراض، لكن هذا المثل السامق يكشف لنا عن طيب معدن المرأة المسلمة في موقف زينب بنت جحش -رضي الله عنها- من محنة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- الطاهرة المبرأة لما قيل في حقها ما هي بريئة منه، وكانت محنة للجميع، فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة ترمى في أعز ما تعتز به، ترمى في شرفها، وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع، وترمى في وفائها، وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير، ثم ترمى في إيمانها، وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة، وهي زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ها هي ذي ترمى، وهي بريئة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئا؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا تبرئها مما رميت به، ولكن الوحي يتلبث ـ لحكمة يريدها الله ـ شهرا كاملا، وهي في مثل هذا العذاب.
ولقد سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأنها قبل نزول القرآن ببراءتها، فكان ممن سألهم: زوجه السيدة زينب بنت جحش -رضي الله عنها-، فماذا كان ردها؟.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: "يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟". فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فعصمها الله بالورع. (متفق عليه).
وهكذا المؤمنون في غيرتهم أو خلافاتهم قوم أطهار يطلبون المعاذير، ويبعدون عن أنفسهم قول السوء وظن السوء، ويدركون حجم الأذى الذي قد تمثله كلمة في غير موضعها، ولذا قيل: "إن المؤمن لسانه من وراء قلبه، إن تكلم بكلمة مرت على قلبه، فإن أنكرها؛ تورع عنها، وإن أقرها؛ تكلم بها، والمنافق عكس ذلك يسعى بالسوء ويحب الإساءة".
وهذا ما وصفه الله -تعالى- متوعدا أولئك الذين يرمون الناس بما ليس فيهم فقال: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} (النساء:112).
وهذا ما قاله -أيضا- الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فيما ما صح في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". (متفق عليه)، وفي الحديث الآخر: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر" (متفق عليه)، فهو فاجر في خصومته يرمي الآخرين بما ليس فيهم.
ومن الأدب مع من يخالفك: عدم الإلزام بما لم يلتزمه المخالف، فمن الإنصاف: عدم تقويل الشخص ما لم يقله، أو إلزامه بما لم يلتزم به، وعدم تحميله ما لم يتحمله، وإزالة اللبس عن كلامه، وحمل كلامه على ما يريد، ولو استطاع أن يحمله على أحسن المحامل فذاك حسن.
ونبراسنا في هذا: ما جاء في الحديث عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته. فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقال لا إله إلا الله وقتلته؟" قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟"، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. (متفق عليه).
فمن الإنصاف: أن لا نسيء الظن بغير بينة واضحة، بل يجب أن نكف في حال اللبس حتى تكون الصورة واضحة جلية، روي أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الشهادة، فقال له: "هل ترى الشمس؟". قال: نعم. قال: "على مثلها فاشهد أو دع" (رواه الحاكم والبيهقي، وضعفه الحافظ ابن حجر وغيره، وقال ابن حزم -رحمه الله-: لا يصح سنده، لكن معناه صحيح).
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومن رزقه الله بصيرة، فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل، ولا تغتر باللفظ".
كما قيل في هذا المعنى:
تـقـول هــذا جنى النـحل تمـدحـه وإن شـئت قلت ذا قيء الزنابـيـر
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحـق قـد يعـتـريه سوء تعـبيـر
فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى: هل هو حق أو باطل؟ فجرده من لباس العبارة، وجرد قلبك عن النفرة والميل، ثم أعط النظر حقه، ناظرا بعين الإنصاف، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه به نظرا تاما بكل قلبه، ثم ينظر في مقالة خصومه ومن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة؛ فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ، والناظر بعين المحبة عكسه، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته، وارتضاه لقبول الحق، وقد قيل:
وعـيـن الرضا عـن كل عيب كـليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
وقال آخر:
نظروا بعين عداوة لو أنها عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا
ولهذا جاء في دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب". (رواه أحمد والنسائي وابن حبان، وصححه الألباني).
ومن الأدب مع المخالف: الإنصاف في نقل الشبهات عن أهلها والرد عليها، ونقصد بذلك أن المسلم إن احتاج أن ينقل شبهة قد انتشرت واستشرت فلينقلها دون أن يغفل بعض مواطنها؛ ليكون منصفا، فإنه لا بد أن ينقلها بأمانة.
وليعلم بأن على الحق نورا، وأن عليه أن يبحث عن الحق، ويتعب نفسه في الاستقصاء للدفاع عنه، والقيام بما هو واجب عليه في الرد على الشبهات. أما في حال الخوف من عدم القدرة على أداء هذا الواجب كما ينبغي؛ فليحل الأمر لغيره حتى لا يسيء من حيث لا يدري.
وفي "القرآن الكريم" نفائس من الردود على المخالفين بعد نقل شبهاتهم، قال -تعالى-: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون} (البقرة:80)، من ذلك: قوله -تعالى-: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون} (البقرة: 116)، وقوله -تعالى-: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} (التوبة:81)، وقوله -تعالى-: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون} (فصلت:15).
فنقـل الشبهة حيث قالها صاحبها ثم الإتيان عليها بالرد المفحم كفيل بقطع كل حجة بكل أدب وإنصاف؛ فهلا كنا من المؤمنين الأطهار قولا وفعلا؟!.
أسأل الله -تعالى- لنا جميعا ذلك، آمين.