- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من بدر إلى الحديبية
أمة بني إسرائيل هي أشهر الأمم في الخيانة والغدر، فلا يعاهدون عهدا إلا نقضوه، ولا يسالمهم قوم إلا غدروا بهم، وقد قال الله عنهم: {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} (البقرة:100)، وحالهم مع أنبيائهم: { كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون } (المائدة: من الآية70)، ومن ثم فلا عجب أن يكذبوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعادوه، ويتآمروا عليه، وينقضوا عهدهم معه .
ورغم قيام الحجج والبراهين الساطعة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - ونبوته، لكن ذلك لم يزدهم إلا عنادا وعداوة، وحقدا وحسدا على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. روى ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب ـ رضي الله عنها ـ قالت : " كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت : فلما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيى بن أخطب، وعمى أبو ياسر بن أخطب مغلسين، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلى واحد منهما، مع ما بهما من الغم، قالت: وسمعت عمى أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟!!، قال: نعم والله ، قال : أتعرفه وتثبته ؟، قال: نعم، قال: فما في نفسك منه ؟ ، قال: عداوته والله ما بقيت " .
وما حدث من اليهود في غزوة بني قريظة ما هو إلا صورة من صور نقض عهودهم، وصفحة من صفحات غدرهم على مر التاريخ ـ قديما وحديثا ـ للقضاء على الإسلام والمسلمين ..
لقد كان من سياسة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول هجرته للمدينة أن وادع اليهود فيها، وعاهدهم بميثاق بين فيه ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات، وكان من بين بنود ذلك الميثاق: " أن للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ".
والتزم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا العهد والميثاق، لأن من شيمته الوفاء والأمانة، ولكن اليهود ـ كعادتهم ـ نقضوا العهد، إذ كان مقتضى المعاهدة معهم أن يشاركوا المسلمين في دفع خطر المشركين عن المدينة، وقد حاصر المشركون المدينة بأعداد كثيفة في غزوة الأحزاب، ولم يكتف اليهود بخذلان المسلمين في هذا الوقت العصيب، والتخلي عنهم في هذا المأزق الحرج، بل دعتهم نفوسهم الخبيثة إلى طعن المسلمين في ظهورهم، والتآمر مع المشركين عليهم .
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( لما رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل ـ عليه السلام ـ فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه، فاخرج إليهم، قال: فإلى أين؟، قال: هاهنا وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم ) رواه البخاري . وفي هذا دلالة على أن غزو بني قريظة جاء الأمر به من عند الله - عز وجل - عن طريق جبريل عليه السلام، وليس فعلا فعله النبي - عليه الصلاة والسلام - وأقره الله تعالى عليه .
أسرع ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين إلى يهود بني قريظة، وحاصروهم في حصونهم خمسا وعشرين ليلة، حتى أتعبهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فلم يجدوا مفرا، ولم يجدوا ما يعتذرون به عن خيانتهم التي كادت تهلك المسلمين .
تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ( فأتاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح، قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ انزلوا على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا، وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى سعد بن معاذ، فأتي به على حمار عليه إكاف (ما يوضع على ظهر الحمار) من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت: وأنى لا (وهو لا) يرجع إليهم شيئا ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم، التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم، قال أبو سعيد: فلما طلع على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه، فقال عمر: سيدنا الله عز وجل، قال أنزلوه فأنزلوه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ احكم فيهم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل وحكم رسوله ) رواه أحمد .
وقد استنبط علماء الحديث والسيرة من قصة بني قريظة جواز قتال من نقض العهد، وجعله الإمام النووي ترجمة للحديث عند مسلم: ( باب جواز قتال من نقض العهد ) .
فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه على المسلمين والوفاء به ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح، وحينئذ يجوز للمسلمين قتالهم إن رأوا المصلحة في ذلك .
وقد نفذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم الله فيهم، وكانوا أربعمائة مقاتل، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة كانت قد قتلت أحد الصحابة، حين ألقت عليه رحى من أعلى الحصن، وأطلق سراح الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم، ثم قسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أموالهم بين المسلمين، وفي بني قريظة نزل قول الله تعالى: { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها وكان الله على كل شيء قديرا } (الأحزاب: 26-27).
قال القاسمي: " { وأنزل الذين ظاهروهم } أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، { من أهل الكتاب } يعني: بني قريظة " .
شبهة وجوابها:
لقد نقضت بنو قريظة عهدها في أصعب موقف وأشد ساعة، ولو أن خيانتهم للمسلمين تمت على ما أرادوا، ودخل المشركون المدينة، وتمكن اليهود من نساء المسلمين وأطفالهم لقتلوهم جميعا، ومع ذلك وجد بعض المعاصرين من المسلمين في نفوسهم شيئا من هذا الحكم ببني قريظة ـ رغم غدرهم وخيانتهم ـ، مع أنه حكم الله تعالى من فوق سبع سموات، ولسان حالهم يقول: كيف تقتل قبيلة كاملة، والإسلام دين الرأفة والرحمة والسماحة ؟!، ويزداد حرجهم وتساؤلهم حين يستغل أعداء الإسلام هذه المواقف من السيرة النبوية متهمين الإسلام بالدموية والعنف.
ولا شك أن هذا الحرج الذي يجده بعض المسلمين من هذه الحادثة ومثيلاتها ينطوي على عدم استسلام كامل لله تعالى في حكمه، والله تعالى يقول: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } (النساء:65)، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لسعد ـ رضي الله عنه ـ لما حكم عيهم بذلك: ( لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل وحكم رسوله ) .
ثم إنه من المعلوم أن للحرب أحكاما ليست للسلم، قال الله تعالى: { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون * فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون } (الأنفال:56-57) .
يقول الشيخ السعدي في تفسيره: " هؤلاء الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث: الكفر، وعدم الإيمان، والخيانة، بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه ولا قول قالوه، هم شر الدواب عند الله، فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها، لأن الخير معدوم منهم، والشر متوقع فيهم، فإذهاب هؤلاء ومحقهم هو المتعين، لئلا يسري داؤهم لغيرهم، ولهذا قال: { فإما تثقفنهم في الحرب } أي: تجدنهم في حال المحاربة، بحيث لا يكون لهم عهد وميثاق { فشرد بهم من خلفهم } أي: نكل بهم غيرهم، وأوقع بهم من العقوبة ما يصيرون به عبرة لمن بعدهم، { لعلهم } أي من خلفهم { يذكرون } صنيعهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم، وهذه من فوائد العقوبات والحدود المرتبة على المعاصي، أنها سبب لازدجار من لم يعمل المعاصي، بل وزجرا لمن عملها أن لا يعاودها ".
يقول ابن القيم: " وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأغلظهم كفرا، ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم " .
إن غزوة بني قريظة ما هي إلا صفحة من صفحات الغدر اليهودي التي لن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، قال الله تعالى: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } (البقرة: من الآية120)، وقال: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } (البقرة: من الآية217) .. وبالقضاء على بني قريظة خلت المدينة تماما من الوجود اليهودي، الذي كان عنصرا خطرا لديه القدرة على المؤامرة والكيد والمكر، وذلك عاقبة غدرهم ونقضهم عهدهم مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..