من أشراط الساعة .. البغي بغير الحق

1 2055

وقف ابن عباس رضي الله عنهما بين أصحابه، ونظر إليهم مليا، ثم ألقى إليهم نصيحة بليغة جرت عند الناس مجرى الأمثال: " لو بغى جبل على جبل، لجعل الله عز وجل الباغي منهما دكا".

ولم يستغرب أصحاب ابن عباس مقولته، ليس لأنه حبر الأمة وفقيه القرآن والسنة فحسب، وإنما لأجل ما كانوا يعلمون من عاقبة الظلم الوخيمة وعظم جنايته، وفحش البغي على الآخرين والاستطالة عليهم .

والبون شاسع بين ما يحبه الله عز وجل من العدل والقسط، وبين ما يبغضه من الظلم والبغي والجور، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس حراما –كما ثبت في السنة-، فإن البغي داخل في جملة ذلك.

وبين البغي وغيره من الذنوب علاقة محكمة وثيقة، وأول بغي سجل في التاريخ البشري كان في صورة الاعتداء السافر الذي قام به أحد ابني آدم على أخيه: { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين} (المائدة:29)، فبغى الأخ الظالم على أخيه، وجعلها سنة باقية من بعده، واستطالت هذه الآفة في الناس حتى استحقت الدخول في الوصف النبوي "داء الأمم"، والمذكور في كلام النبي –صلى الله عليه وسلم- في سياق بيان أشراط الساعة وفتنها.

ومن خلال هذا الحديث الذي سنسوقه، يتبين لنا مدى الارتباط بين البغي وغيره من الذنوب، وما هي الآثار المترتبة عليه، والحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سيصيب أمتي داء الأمم)، فقالوا: يا رسول الله، وما داء الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (الأشر، والبطر، والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وفي رواية للطبراني: (حتى يكون البغي، ثم يكون الهرج).

أما الأشر فهو التكبر والمرح والعجب، ومعنى البطر: الطغيان عند النعمة، ونسيان المنعم سبحانه وتعالى، والتكاثر: أن يريد كل امريء أن يكون أكثر أموالا وأولادا، كما قال تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} (الحديد:20)، والنجش كما عرفه ابن الجوزي: " مدح السلعة والزيادة في ثمنها، وهو لا يريد شراءها؛ وإنما يغر بذلك غيره"، وأما الهرج فهو في الأصل: الفتنة واختلاط الأمور وكثرة الشر، وهي في هذا السياق بمعنى كثرة القتل، بدليل قول النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر: (يتقارب الزمان، ويكثر الهرج) قالوا: وما الهرج؟ قال: (القتل القتل) رواه البخاري ومسلم.

وعند التأمل في الحديث نفهم أن البغي قد يكون ناتجا عن البغضاء والحسد، وهذا معنى صحيح دلت عليه النصوص، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والحسد يوجب البغي كما أخبر الله تعالى عمن قبلنا –في سورة آل عمران-، أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، فلم يكن اختلافهم لعدم العلم، بل علموا الحق، ولكن بغى بعضهم على بعض، كما يبغي الحاسد على المحسود".

وجريمة البغي وبخس الحقوق والاستعلاء على الناس، جريمة منكرة، ومن شناعتها أن تحريمها في القرآن جاء مقرونا بالشرك، قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} (الأعراف:33)، وعقوبته معجلة في الدنيا، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرحم) رواه أصحاب السنن عدا النسائي، فالبغي معاملة الخلق بضد الرحمة والعدل، فاستحق الباغي لأجلها الوعيد الشديد.

وإذا كان البغي هو طلب الاستعلاء بغير الحق، فإنه وعلى هذا التعريف يشتمل على معان عدة ومتعلقات كثيرة، ومنه: البغي بمعنى الخروج على الإمام، ويكون أصحابه "بغاة" كما في وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمخالفيه في معركة الجمل فقال: "إخواننا بغوا علينا"، ومنه الزنا، وهو استطالة في العرض، وجاءت منه كلمة البغاء، قال تعالى: { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} (النور:33).

وكما يكون البغي على الآخرين، فقد يكون البغي على النفس، وذلك عندما يعاهد الإنسان ربه بالتوبة والأوبة حال الشدة، فإذا حصل له مراده عاد إلى سابق عهده، ونسي ما ألزم به نفسه: { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} (يونس:22-23).

وصور البغي في أزماننا لا تكاد تنتهي، تبدأ من ظلم العبد لنفسه، وظلمه لأقاربه وجيرانه، وتستمر الدائرة اتساعا لتشمل ظلم دول وأقاليم كاملة، صور كثيرة لا تخطئها العين نسمع عنها كل يوم في أحاديث الناس، وتشهد لها أروقة المحاكم، وتسجلها أدوات الإعلام وكتب التاريخ، فكل استعمار حدث فيما مضى، واستطالة على الدول الفقيرة واستلاب لمقدراتها ومواردها هو من البغي بغير الحق، وما الاختلاف بين دول الغرب إلا تنازع على كيفية "تقسيم الكعكة" من موارد الشعوب المقهورة، وتسابق في الحصول على حظ أوفر من التركة.

ألا فليتذكر كل امريء ربه، فعاقبة البغاة والظالمين خسرا، والقرآن قد صور لنا مصارع الظالمين وما حاق بهم من العذاب والنكال، والهزيمة والهوان، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، نسأل الله تعالى أن ينصرنا على من بغى علينا وظلمنا؛ إنه جواد كريم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة