لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا

1 1746

جاء في "تفسير البغوي" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أهل مكة قالوا: يا محمد! ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتري عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب، فترتحل منها إلى التي قد أخصبت، فأنزل الله تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (الأعراف:188). 

هذه الآية من أعظم أصول الدين، وقواعد عقائده؛ ببيانها لحقيقة الرسالة، والفصل بينها وبين الربوبية والألوهية، وهدمها لقواعد الشرك، ومباني الوثنية من أساسها. 

وقد سبقت هذه الآية بآية تبين أن الله تعالى أمر خاتم رسله أن يجيب السائلين له عن الساعة بأن علمها عند الله تعالى وحده، وأمرها بيده وحده، وأمره في هذه أن يبين للناس أن كل الأمور بيد الله تعالى وحده، وأن علم الغيب كله عنده، وأن ينفي كلا منهما عن نفسه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الذين كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن {الساعة} من المسلمين؛ كانوا يظنون أن منصب الرسالة قد يقتضي علم الساعة، وغيرها من علم {الغيب}، وربما كان يظن بعض حديثي العهد بالإسلام أن الرسول قد يقدر على جلب (النفع)، ومنع (الضر) عن نفسه، وعمن يحب أو يشاء، أو منع (النفع) وإحداث (الضر) بمن يكره أو بمن يشاء. فأمره الله تعالى أن يبين للناس أن منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وإنما وظيفة الرسول التعليم والإرشاد، لا الخلق والإيجاد، وأنه لا يعلم من {الغيب} إلا ما يتعلق بذلك مما علمه الله بوحيه، وأنه فيما عدا تبليغ الوحي عن الله تعالى بشر كسائر الناس. هذا هو المعنى الإجمالي لهذه الآية الكريمة، أما التفصيل فإليك هو:

قوله سبحانه: {لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا}، الخطاب هنا للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو خطاب عام يشمل كل مكلف؛ فإذا كان الرسول -وهو من هو منـزلة ومكانة- لا يملك من الأمر شيئا، فمن باب أولى أن يكون غيره كذلك. وقد وقعت كلمتا (النفع) و(الضر) نكرتين منفيتين، فأفادتا العموم، بحسب القاعدة التي تقول: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، ونفي عموم الفعل {لا أملك} يقتضي نفي عموم الأوقات له. بيد أن هذا العموم معارض بما هو معلوم بالضرورة من تمكن كل إنسان سليم الأعضاء من نفع نفسه، وغيره في بعض الأمور الكسبية، ودفع بعض الضرر عنها; ولذلك حرمت الشريعة الضرر والضرار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجه ومالك

وأجيب عن هذا: أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك بمقتضى منصب الرسالة {نفعا ولا ضرا} لنفسه بمنطوق الآية، ولا لغيره بمفهومها الأولى، مما يعجز عنه بمقتضى بشريته، وما أقدره الله تعالى عليه بمقتضى سنته في عالم الأسباب والمسببات، كما أنه لا يملك شيئا من علم {الغيب}، الذي هو شأن الخالق دون المخلوق. فالاستثناء في الآية {إلا ما شاء الله} منفصل عما قبله، مؤكد لعمومه، والمعنى: ما شاء الله تعالى من ذلك كان، فهو كقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} (الأعلى:6-7).

وبناء على هذا، لا ينبغي لأحد أن يذهب الظن به إلى أنه سبحانه قد أعطى أحدا من خلقه -بمن فيهم الأنبياء والأولياء- القدرة على التصرف في خلقه بما هو فوق الأسباب التي منحها الله تعالى لسائر عباده، فالله سبحانه هو الذي يعطي ويمنع، ويغفر ويرحم وينتقم. ورسل الله تعالى -وهم صفوة خلقه- لا يشاركون الله تعالى في صفة من صفاته، ولا تأثير لأحد منهم في علمه، ولا في مشيئته; لأنها كاملة أزلية لا يطرأ عليها تغير، وأن الرسالة التي اختصهم الله تعالى بها لا يدخل في معناها إقدارهم على (النفع) و(الضر) بسلطان فوق الأسباب المسخرة لسائر البشر، ولا منحهم علم الغيب، وإنما تبليغ وحي الله تعالى وبيانه للناس بالقول والفعل والحكم.

فلما كان ملك (الضر) و(النفع) بهذا الإطلاق والعموم خاصا به سبحانه، وكان طلب (النفع) أو كشف (الضر) عبادة لا يجوز أن يوجه إلى غيره من عباده مهما كانت منـزلته عند الله، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصرح بـ(البلاغ) عنه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره {نفعا ولا ضرا}. وقد تكرر هذا الأمر له صلى الله عليه وسلم في القرآن مبالغة في تقريره وتوكيده، قال تعالى: {قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله} (يونس:49)، وقال سبحانه: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} (الجن:21). 

ثم أمره تعالى أن ينفي عن نفسه علم {الغيب}، مستدلا عليه بانتفاء أظهر منافعه القريبة، فقال: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير}. وقد ذكر المفسرون هنا أقوالا في المراد من {الخير}؛ فروي عن مجاهد وغيره أنه العمل الصالح. وعن ابن زيد أنه اجتناب ما يكون من الشر واتقاؤه. وقال آخرون: {الخير} ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية كالمال والعلم، و(السوء) ما يرغبون عنه مما يسوءهم ويضرهم، وكل هذه الأقوال قريبة لا تعارض بينها، والمراد جنس {الخير} الذي يمكن تداركه وتحصيله، و(السوء) الذي يمكن الاستعداد لدفعه بعلم ما يأتي به الغد.

وهذه الجملة من الآية استدلال على نفي علم النبي صلى الله عليه وسلم {الغيب}، كأنه يقول: {لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا}، {ولا أعلم الغيب} (الأنعام:50)، {ولو كنت أعلم الغيب} وأقربه ما يقع في مستقبل أيامي في الدنيا {لاستكثرت من الخير}، كالمال وأعمال البر، التي تتوقف على معرفة ما يقع في المستقبل من عسرة وغلاء مثلا وتغير الأحوال، ولما {مسني السوء} الذي يمكن الاحتياط لدفعه بعلم {الغيب}، كشدة الحاجة مثلا.

ومن المفيد هنا التنبيه إلى أن {الغيب} قسمان: حقيقي لا يعلمه إلا الله، وإضافي يعلمه بعض الخلق دون بعض، وهذه الآية تنفي قدرة الرسول صلى الله عليه وسلم على التصرف في خلق الله تعالى بما هو فوق كسب البشر، وتنفي عنه علم {الغيب} بهذا المعنى، إلا ما أعلمه الله تعالى به بوحيه؛ لتعلقه بوظيفة الرسالة، كالملائكة، والحساب، والثواب، والعقاب، وأن ما يطلع الله عليه الرسل من ذلك لا يكون من علمهم الكسبي، بل يدخل في معنى الإجماع على أن النبوة غير مكتسبة، قال سبحانه: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول} (الجن:26-27).

وجاء ختام الآية {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} تعليل لما تقدم من نفي امتيازه صلى الله عليه وسلم على البشر بملك (النفع) و(الضر) من غير طرق الأسباب، وسنن الله في الخلق. وتضمن ختام الآية ملحظا، وهو: أن (التبشير) لا يوجه إلى الكافرين والمجرمين بلقبهم إلا بأسلوب التهكم، كقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (الآية:21) على المشهور من أقوال أهل العلم، وأما (الإنذار) فقد يوجه إلى المؤمنين المتقين على معنى أنهم هم الذين ينتفعون به، كقوله سبحانه: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة} (فاطر:18).

ومن ثم قال بعض المفسرين: إن قوله تعالى: {لقوم يؤمنون} متعلق بالوصفين، (التبشير) و(الإنذار) على معنى أن المؤمنين هم الذين ينتفعون بـ(إنذاره) سبحانه، فيزيدهم خشية لله، واتقاء لما يسخطه، وبـ(تبشيره) فيزدادون شكرا له بعبادته وإقامة سننه.

وقال آخرون: إن قوله تعالى: {لقوم يؤمنون} متعلق بالثاني (التبشير) المتصل به، ويدل على حذف مقابله (الكافرين) فيما قبله. والتقدير: ما أنا إلا نذير للكافرين، وبشير للمؤمنين، وهذا كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} (النحل:81)، أي: وتقيكم البرد.

وثمة من يقول: إن (البشارة) في الآية للمؤمنين خاصة؛ لاتصالها بهم، و(الإنذار) عام لهم ولغيرهم. ولكل قول دليله .

ثم ها هنا بعض الفوائد المتعلقة بهذه الآية:

أولها: أعيد الأمر بـ(القول) مع تقدمه مرتين في قوله سبحانه: {...قل إنما علمها عند ربي...قل إنما علمها عند الله} (الأعراف:187) للاهتمام باستقلال (المقول)، وأنه لا يندرج في جملة (المقول) المحكي قبله، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول عليه الصلاة والسلام نحو معرفة {الغيب}؛ ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة {الغيب} لصفة النبوة؛ إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم {الغيب}، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته، حتى يستيئسوا من تحديه بذلك؛ وإعلاما للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه؛ ولذلك نفى صلى الله عليه وسلم عن نفسه معرفة أحواله المغيبة، فضلا على معرفة المغيبات من أحوال غيره {إلا ما شاء الله}.

ثانيها: قدم (النفع) هنا على (الضر) = {لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا}، وقدم (الضر) على (النفع) = {قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله} (يونس:49)؛ لأن آية الأعراف جاءت بعد السؤال عن الساعة أيان مرساها؟ وأكبر فوائد العلم بـ {الساعة}، وهو من علم {الغيب} الاستعداد لها بالعمل الصالح، واتقاء أسباب العقاب فيها، فاقتضى ذلك البدء بنفي ملك (النفع) لنفسه بمثل هذا الاستعداد، وتأخير ملك (الضر) المراد به ملك دفعه، واتقاء وقوعه، وأن يستدل على ذلك بما ذكر من أنه لو كان يعلم {الغيب} حتى فيما دون الساعة زمنا وعظم شأن لاستكثر من {الخير} الذي يتعلق بالاستعداد للمستقبل، واتقى أسباب ما يمسه من {السوء} فيه. 

وأما آية سورة يونس، فقد وردت في سياق مماراة الكفار فيما أوعدهم الله من العقاب على التكذيب بما جاءهم به رسوله من البينات والهدى، واستعجالهم إياه؛ تهكما ومبالغة في الجحود، فناسب أن يذكر في جوابهم أنه لا يملك لنفسه ولا لهم {ضرا}، كتعجيل العذاب الذي يكذبون به، ولا {نفعا}، كالنصر الذي يترتب على تعجيل العذاب لهم في الدنيا، فقد أمره الله تعالى أن يبلغهم أن أمر عذابهم -تعجيلا، أو تأخيرا- لله تعالى وحده، كما أمره أن ينفي عن نفسه القدرة على ما اقترحوه من الآيات، ومن ذلك ما ذكره تعالى من مقترحاتهم في سورة الإسراء من تفجير ينبوع في مكة، وإيجاد جنة تتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو إسقاط السماء عليهم كسفا، وهو من العذاب.

ثالثها: عطف قوله: {ولا ضرا} على {نفعا} مع أن المرء لا يطلب إضرار نفسه؛ لأن المقصود تعميم الأحوال؛ إذ لا تعدو أحوال الإنسان عن (نافع) و(ضار)، فصار ذكر هذين الضدين مثل ذكر المساء والصباح، والليل والنهار، والشر والخير.

رابعها: جعل نفي أن يملك لنفسه {نفعا}، أو {ضرا} مقدمة لنفي العلم بـ {الغيب}؛ لأن غاية الناس من التطلع إلى معرفة {الغيب} هو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة بتهيئة أسبابها وتقريبها، وإلى التجنب لمواقع الإضرار، فنفي أن يملك لنفسه {نفعا ولا ضرا}، يعم سائر أنواع (الملك)، وسائر أنواع (النفع)، و(الضر)، ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل وهو من {الغيب}. فإذا أراد الله أن يوجه نفس الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معرفة شيء مغيب أطلعه عليه؛ لمصلحة الأمة، أو لإكرام الأمة له، كقوله تعالى: {إذ يريكهم الله في منامك} (الأنفال:43) إلى قوله: {ليقضي الله أمرا كان مفعولا} (الأنفال:44).

خامسها: قدم وصف (النذير) على وصف (البشير) = {إن أنا إلا نذير وبشير}؛ لأن المقام خطاب المكذبين المشركين، فوصف (النذارة) ألصق بهم من وصف (البشارة).

ومستخلص القول مما تقدم: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام عبيد الله تعالى مكرمون، لا يشاركونه في صفاته، ولا في أفعاله، ولا سلطان لهم على التأثير في علمه ولا في تدبيره، وهم بشر كسائر الناس لا يمتازون على البشر في خلقهم وصفاتهم وغرائزهم، وإنما يمتازون باختصاص الله تعالى إياهم بوحيه، واصطفائهم لتبليغ رسالاته لعباده، وبما زكاهم وعصمهم، فأهلهم لأن يكونوا أسوة حسنة لعباده، وقدوة صالحة للناس في العمل بما جاءوا به عن الله تعالى من الصلاح والتقوى ومكارم الأخلاق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة