- اسم الكاتب:اسلام ويب
- التصنيف:خواطـر دعوية
قبل الاستخلاف والتمكين يعيش الناس زمنا من الاستضعاف والمهانة والإذلال والتعذيب، أو الاحتقار والازدراء والتهميش.
أمة مهانة مستعبدة مستباحة يجري عليها كل صنوف الذل والقهر {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم}(القصص:4)
يأتي قدر الله وأمره لتحويل هذه الأمة من هذا الواقع الأليم ونقلها من هذا الوضع المشين {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض}(القصص:5، 6)
تبدأ مناوشات ومواجهات تدل على أن الأمة قد دبت فيها الروح وعادت إليها الحياة ـ إما بإرسال رسول إليها، أو بإحياء الدعاة فيهاـ تغير لابد منه فـ {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، تغير يدل على أن الأمة أصبح لها هدف وشيء تسعى إلى تحقيقه.. هذا الشيء بالطبع لا يقبله الظالمون فيواجهونهم بأشد أنواع التنكيل والتعذيب والتدمير {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ۚ قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون}(الأعراف:127)
وسلاح المؤمنين هنا هو الصبر على الأذى والظلم، والصبر على الدين والإيمان، والصبر على التمسك بذرى الحق، والصبر على الدعوة للهدى والتقى، والمصابرة للأعداء والمدافعة قدر الطاقة، والمرابطة في ميدان الإيمان والهدى والجهاد..
ثم مع الصبر والمصابرة والمرابطة لابد من "الاستعانة بالله تعالى" فهو وحده المعين وليس يأتي نصر إلا من عنده {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ۖ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ۖ والعاقبة للمتقين}(الأعراف:128)
فإذا وصل الأمر إلى هذا المستوى هلت بشائر النصر على أهل الإيمان، يراها المرسلون والعالمون وأهل البصيرة من وراء سجف الغيب قريبة دانية، وإن كان عموم المؤمنين لا يرونها واضحة أو يرونها بعيدة مع شدة الطغيان وارتفاع وتيرة القهر والتنكيل {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ۚ قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}(الأعراف:129)
وما هي إلا بعض أحداث ويسدل الستار على نهاية واحدة، وإن اختلفت التفاصيل والسيناريوهات لكن تبقى النهايات متطابقات.. قوم يصبرون فيلقون جزاء صبرهم، وقوم يفجرون فيلقون جزاء فجورهم {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ۖ وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ۖ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون}(الأعراف 137)
مقاصد التمكين:
لقد تغير وجه الأرض، وأهلك الله الظلم وأهله، ومكن لأهل الإيمان وصارت الكلمة الآن كلمتهم، وآلت إليهم أمور الحكم وعجلة القيادة، فلماذا مكن الله لهم؟
إن للتمكين مقاصد، وليس هو مجرد تغيير لوجوه الحاكمين أو أشكال المتنفذين.. فمن مقاصد التمكين:
ـ إقامة دين الله في الأرض، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تقام شرائع الله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ۗ ولله عاقبة الأمور}(الحج:41)
ـ العمل على جمع كلمة الأمة وتوحيد صفها وحفظ هويتها.
ـ إقامة العدل في الأرض.
ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ـ إعداد الأمة لنشر دعوة الله في المعمورة.
ـ تهيئة الجو الاجتماعي ورفع مقام مكارم الأخلاق والفضائل.
ـ تقوية النظام الاقتصادي ليواجه تحديات المرحلة وقوة الأعداء.
ـ جلب المصالح ودرء المفاسد عن العباد.
ـ تربية الأمة جهاديا لتحمي نفسها وتقيم دعوته.
هذه مقاصد من مقاصد التمكين تصبح الأمة الجديدة مطالبة بتحقيقها أو السعي في تحقيقها قدر الطاقة، فإن لم تفعل لم تكن صالحة للتمكين ولابد أن يأتي عليها الدور الذي أتى على سابقيها.
الاستخلاف ابتلاء:
وأحيانا مع غمرة الفرحة بالنصر ونشوة التمكين ينسى البعض الغاية منه، ويغفل البعض عن سنة الله فيه؛ ألا وإنه إنما هو استخلاف للابتلاء.. استخلاف للامتحان {قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}
والله تعالى يعلم ما سيكون قبل أن يكون، ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب أحدا حتى يقع منه في العيان ما هو مكشوف له سبحانه في الغيب بعلمه القديم المحيط بكل شيء.
إن أيام الاستخلاف والقوة تظهر من أمراض القلوب والنفوس ما كانت تخفيه أيام القهر والذل، وتكشف عيانا عن حقيقة التربية التي تلقاها أفراد الأمة الجديدة، وعن معادن هذه الفئة التي تغير الميزان لصالحها بعد أن كان مائلا عنها..
ففي فترات الاستضعاف لا يوجد ما يتعالى به المرء على الناس، ولا هناك ما يتكبر به عليهم، بل هو يسعى لكسب ودهم وتعاطفهم معه ومع قضيته، ليس هناك ازدراء للعباد؛ لأن الازدراء كان من نصيبنا نحن، الأمة المستضعفة المهمشة.
في فترات الاستضعاف ليست هناك مناصب نتقاتل عليها، ولا وجاهات نسعى إليها، ولا قنوات تتلهف علينا ونتلهف عليها.. ليس هناك أحزاب تتصارع ولا مصالح تتقاطع، ولا أمجاد شخصية يسعى كل واحد للحصول عليها أو تحقيق أكبر قدر منها.. كلنا كنا في الهم شرق، يجمعنا الاستذلال، ويوحدنا التنكيل، ويلم شملنا محاولات التفريق والتشتيت.. فكانت الأمراض مختفية ولو إلى حين.. فلما ظهرت بوادر التمكين ظهرت معها الأمراض التي كانت مستورة، وافتضحت الأخطاء التي كانت مغمورة، وبدت العورات بعد رفع الستر عنها.
ولو أن الأمة الجديدة التي مكن الله لها بدلا من أن تهتم بنشر العقيدة والدين ونصر الشريعة وقانون الله انشغلت بتحصيل المكاسب الجديدة، والتنعم بالنعم التي كانت محرومة من أكثرها، وغفلت عن الدعوة بعد أن حصلت على الأمن وتخصلت من الخوف الذي كان يحوطها من كل جانب، ونكصت عن الجهاد لنصرة الحق وإقامة العدل.. فلابد أن يكون مصيرها مصير بني إسرائيل.. مكنهم الله ليشكروا نعمته ويوحدوه.. فكان أول شيء: {أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ۚ قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ۚ قال إنكم قوم تجهلون}..
وصنع لهم السامري العجل فعبدوه من دون الله و{قالوا هذا إلهكم وإله موسى}.. وأمرهم الله بالجهاد في سبيله وأن يدخلوا الأرض المقدسة فأبوا وقالوا لنبيهم عليه السلام: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}(المائدة:24)؛ فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة كاملة لا يعلمون لهم وجهة ولا سبيل عقابا من الله لهم.. ثم بعد زمن لما فتح الله عليهم الأرض المقدسة أمرهم أن يدخلوها خاشعين خاضعين شاكرين لله ذاكرين له داعين الله أن يحط عنهم خطاياهم {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ۚ وسنزيد المحسنين} فاستهزؤوا بالأمر ودخلوا يزحفون على أستاههم، ويقولون حبة في شعير أو حنطة في شعير تبديلا لكلام الله واستهزاء بأمره.. {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون}(البقرة:58، 59) فكانت العاقبة أن الله أنزل عليهم رجزا من السماء أي عذابا.. وكانت النهاية باستخلاف أمة غير هذه الأمة المعاندة لأمر الله..
فأرسل الله نبيه فجاهد ومعه المسلمون حق الجهاد، ومضت عليهم سنة رب العباد حتى مكنهم الله في الأرض وأورثهم إياها.. وكانت قمة النصر عندما فتحوا مكة في العام الثامن فدخلها النبي ومن معه خاشعين كما أمر الله بني إسرائيل فأبوا وأطاع المؤمنون، ومضوا في الأرض يحققون مراد الله زمانا طويلا؛ فمكنهم الله منها يقيمون العدل وينشرون الدين ويقومون بحق الله والدعوة أكثر من عشرة قرون.. ثم غيروا فغير الله حالهم وشتت شملهم ليعلم الجميع أنها سنة الله التي لا تحابي أحدا..
وها هي الأيام كأنها تحمل لنا مرة أخرى رياح التغيير والتمكين بعد أزمنة من الذل والضعف، غير أن أهم ما في الأمر هو الخوف من الخذلان، وأن تجري سنن الله التي لا تتخلف، فإن من يخذل الله يخذله، ومن لا يقوم بحق التمكين يسلبه.. فهل نعتبر ونتعظ ونتعلم من سنن الله تعالى؟؟