صوم رمضان تجارة رابحة مع الله تعالى

0 674

الحكمة السابعة

قال بديع الزمان النورسي:

إن صيام رمضان من حيث تطلعه لكسب الإنسان -الذي جاء إلى الدنيا لأجل مزاولة الزراعة الأخروية وتجارتها- له حكم شتى، نذكر واحدة هي أن ثواب الأعمال في رمضان يضاعف الواحد إلى الألف. ومن المعلوم أن كل حرف من القرآن الحكيم له عشر أثوبة، ويعد عشر حسنات، ويجلب عشر ثمار من ثمرات الجنة -كما جاء في الحديث الشريف- ففي رمضان يولد كل حرف ألفا من تلك الثمرات الأخروية بدلا من عشر منها، وكل حرف من حروف آيات -كآية الكرسي- يفتح الباب أمام الألوف من تلك الحسنات، لتتدلى في الآخرة ثمارا حقيقة. وتزداد تلك الحسنات باطراد أيام الجمع في رمضان، وتبلغ الثلاثين ألفا من الحسنات ليلة القدر. 

نعم، إن القرآن الكريم الذي يهب كل حرف منه ثلاثين ألفا من الثمرات الباقية يكون بمثابة شجرة نورانية -كشجرة طوبى الجنة- بحيث يغنم المؤمنين في رمضان المبارك تلك الثمرات الدائمة الباقية التي تعد بالملايين...تأمل هذه التجارة المقدسة الخالدة المربحة، وأجل النظر فيها، ثم تدبر في أمر الذين لا يقدرون قيمة هذه الحروف المقدسة حق قدرها، ما أعظم خسارتهم وما أفدحها؟

وهكذا، فإن شهر رمضان المبارك أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الأخروية، أو هو سوق في غاية الحركة والربح لتلك التجارة، وهو كالأرض المنبتة في غاية الخصوبة والغناء لإنتاج المحاصيل الأخروية...وهو كالغيث النازل في نيسان لإنماء الأعمال وبركاتها...وهو بمثابة مهرجان عظيم وعيد بهيج مقدس لعرض مراسيم العبودية البشرية تجاه عظمة الربوبية وعزة الألوهية. 

لأجل كل ذلك، فقد أصبح الإنسان مكلفا بالصوم؛ لئلا يلج في الحاجات الحيوانية، كالأكل والشرب من حاجات النفس بالغفلة، ولكي يتجنب الانغماس في شهوات الهوى وما لا يعنيه من الأمور...وكأنه أصبح بصومه مرآة تعكس "الصمدانية"، حيث قد خرج مؤقتا من الحيوانية، ودخل في وضع مشابه للملائكية، أو أصبح شخصا أخرويا، وروحا ظاهرة بالجسد، بدخوله في تجارة أخروية وتخليه عن الحاجات الدنيوية المؤقتة. 

نعم إن رمضان المبارك يكسب الصائم في هذه الدنيا الفانية، وفي هذا العمر الزائل، وفي هذه الحياة القصيرة عمرا باقيا، وحياة سرمدية مديدة، ويتضمن كلها. فيمكن لشهر رمضان واحد فقط أن يمنح الصائم ثمرات عمر يناهز الثمانين سنة. وكون ليلة القدر خيرا من ألف شهر -بنص القرآن الكريم- حجة قاطعة لهذا السر. 

فكما يحدد سلطان أياما معينة في فترة حكمه، أو في كل سنة، سواء باسم تسنمه عرش الحكم، أو في أي يوم آخر من الأيام الزاهرة لدولته، جاعلا من تلك الأيام مناسبات وأعيادا لرعيته، فتراه لا يعامل رعيته الصادقين المستحقين في تلك الأيام بالقوانين المعتادة، بل يجعلهم مظهرا لإحسانه وإنعامه وأفضاله الخاصة. فيدعوهم إلى ديوانه مباشرة دون حجب، ويخصهم برعايته الخاصة، ويحيطهم بكرمه وبإجراءاته الاستثنائية، ويجود عليهم بتوجهاته الكريمة...كذلك القادر الأزلي ذو الجلال والإكرام...، قد أنزل سبحانه في شهر رمضان أوامره الحكيمة السامية، وقرآنه الحكيم المتوجه إلى تلك الألوف من العوالم؛ لذا فإن دخول ذلك الشهر المبارك في حكم عيد ومناسبة إلهية خاصة بهيجة، وفي حكم معرض بديع رباني، ومجلس مهيب روحاني، هو من مقتضى الحكمة. فما دام شهر رمضان قد تمثل بتلك المناسبة البهيجة، وذلك العيد المفرح، فلا بد أن يؤمر فيه بالصوم؛ ليسمو الناس -إلى حد ما- على المشاغل الحيوانية السافلة. فالكمال في ذلك الصوم هو جعل جميع حواس الإنسان، كالعين والأذن والقلب والخيال والفكر على نوع من الصوم، كما تقوم به المعدة. أي تجنيب الحواس تلك من المحرمات والسفاهات وما لا يعنيها من أمور، وسوقها إلى عبودية خاصة لكل منها.

فمثلا: يروض الإنسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية، ويمنعه عنها، ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه، والتسبيح بحمده، والصلوات والسلام على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، وما شابهه من أنواع الأذكار.

ومثلا: يغض بصره عن المحرمات، ويسد أذنه عن الكلام البذيء، ويدفع عينه إلى النظر بعبرة، وأذنه إلى سماع الكلام الحق، والقرآن الكريم، ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام.

ومن المعلوم أن المعدة التي هي مصنع كبير جدا، إن عطلت أعمالها بالصيام، فإن تعطيل المعامل الصغيرة الأخرى يكون سهلا ميسورا.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة