الإصلاح بين الدعاة

0 998

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين.. وبعد:
فإن الإصلاح بين الناس من أعظم القربات التي تواترت النصوص الشرعية على تأكيدها والحث عليها والتحذير من عواقب مخالفتها، ومن ذلك قول الحق - تبارك وتعالى -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما}[النساء:114]، وقال تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم}[البقرة:224]، وقال تعالى: {إنما الـمؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}[الحجرات:10].

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإصلاح، وحذر من تركه، فعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)[رواه أحمد ,ابو داود وصححه الأرناؤوط].
وقال صلى الله عليه وسلم: (صل بين الناس إذا تفاسدوا، وقرب بينهم إذا تباعدوا)[أخرجة البيهقي والبزار وحسنة الألباني في صحيح الترغيب].

وأكدت سنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية على السعي في الإصلاح، ومن ذلك: أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (اذهبوا بنا نصلح بينهم)[رواه البخاري]. وعن سهل بن سعد – رضي الله عنه – أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه يصلح بينهم.[أخرجه البخاري ومسلم].

ولعظم المصالح المترتبة على تأليف القلوب، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا)[متفق عليه].

ومن أعظم شعب الإصلاح: الإصلاح بين العلماء والدعاة والجماعات والتجمعات الإسلامية؛ لأن الفساد المترتب على تهاجرهم وتدابرهم له آثار متعدية على الدعوة والدعاة؛ ولذا كان التواصي بإصلاح ذات البين وقطع مادة النزاع والتدابر من الأولويات المهمة التي ينبغي إشاعتها وترسيخها في الأوساط العلمية والدعوية، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في هذا السبيل صنفان: مفاتيح للخير، ومفاتيح للشر، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه)[أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني].

فمفاتيح الشر: يسعون بين الدعاة بالنميمة، والتحريش بين المصلحين، ويستثيرون النزاعات والخصومات، ويستدعون الخلافات مهما دقت، ويلبسون ذلك – أحيانا – لباس النصيحة والغيرة على الدين وأهله، وهؤلاء من أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن أبغضكم إلي المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبراء العنت)[صحيح الترغيب].
ومفاتيح الخير: الذين يستجيبون لأمر الله – تعالى – بالإصلاح، ويهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على المحبة وأواصر الأخوة ووحدة الكلمة وتأليف الصفوف.
وشتان شتان بين من يكون معول هدم يخرق سفينة الدعاة ويشرخ وحدة الأمة بالقيل والقال، وإثارة الأغلوطات، والتفريق بين الأحبة؛ ومن يبني ويرص الصفوف، ويجمع شتاتها، ويصلح الله على يديه شعث الأمة! وفي هذا الباب يقول ابن تيمية: (تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين.. وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة)[ ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 28/51].

أخلاق الإصلاح بين الدعاة:
الأخلاق العظيمة المؤسسة للإصلاح بين الدعاة كثيرة جدا، لعل من أهمها:
أولا: السماحة:
وهي من محاسن الأخلاق التي دلت عليها الشريعة المطهرة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)[رواه البخاري]. والبيع والشراء والقضاء هي محل المفاصلة – غالبا – في العلاقات بين الناس، ولهذا نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن السماحة مطلوبة محمودة في عامة العلاقات الاجتماعية.

والسماحة تعني: السهولة ولين الجانب، وهما سبيل الإصلاح والتآلف، ومقابلهما: الشح والتعنت، وتأمل قول الله – تعالى – في العشرة الزوجية: {والصلـح خير وأحضرت الأنفس الشح} [النساء: 128]، وهذه الآية عامة في جميع العلاقات بين الناس، فالعبرة بعموم اللفظ، وفي شرح هذه الآية يقول الشيخ السعدي: (جبلت النفوس على الشح، وهو عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له. فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده، وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك، والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وافق الإنسان لهذا الخلق الحسن، سهل – حينئذ – عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ما له، ولا يرشى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر)[تفسير السعدي224].
وعندما تتأمل واقع الدعوة والدعاة، ستجد أن من أعظم أسباب الفرقة والتنازع قلة التسامح، وشيوع أخلاق الشح، نسأل الله السلامة!

ثانيا: العفو:
فالعفو من أعظم أبواب الإصلاح، فمتى طهرت القلوب وسمت الأخلاق رأيت العبد يترفع عن الخصومة والانتصار للنفس، ويبادر إلى العفو والصفح، وإن أخطأ عليه الآخرون، قال الله – عز وجل -: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب الـمحسنين}[آل عمران: 133 - 134]، وقال تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبـون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}[النور: ٢٢].
وقد وصفت عائشة – رضي الله عنها – خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (لا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح)[أخرجه أحمد وصححه الأرناؤوط].

إن كثيرا من الخلافات تتجذر في الأوساط الدعوية بسبب امتلاء الصدور بالشحناء والتنافس الحزبي المذموم، والعفو هو السبيل الذي يزيل الاحتقان ويطهر النفوس من حظوظها، وقد وصفه الإمام القرطبي بقوله: (العفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير)[الجامع لأحكام القرآن].
وظاهر العفو الضعف والعجز، وهذا يدفع بعضهم للاعتزاز بالنفس والإصرار على حقوقها؛ لكن حقيقته السمو والتخلق بأخلاق ذوي المروءات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)[رواه مسلم].

ثالثا: الدفع بالتي هي أحسن:
فحين تدفع السيئة بسيئة مثلها، يزداد الخلاف وتمتلئ الصدور بالضغينة، ومن ثم تتمزق الصفوف ويتعذر الإصلاح؛ ولذا كان المنهاج القرآني الدعوة إلى الترفع عن الخصومات ودفع السيئة بالحسنة، قال الله عز وجل: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة}[المؤمنون: 96]، وقال: {ولا تستوي الـحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34]، ولأن هذا خلق عزيز لا يقوم عليه إلا الربانيون قال تعالى: {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}[فصلت: 35].
وهذا الخلق من أعظم أبواب الإصلاح، فالعاقل يدير خلافاته مع الآخرين بحكمة وهدوء، ويجيد ترويض المخالفين بالإحسان إليهم، ويحسن تحويلهم بحسن خلقه من معادين إلى أولياء مناصرين.

رابعا: الحذر من العصبية:
التعصب الحزبي والمشيخي من أشد دواعي الفرقة والاختلاف، كما أن التجرد في طلب الحق، والموضوعية في تقويم الآراء والاجتهادات؛ من أعظم أبواب الإصلاح وتأليف القلوب. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العصبية العمياء بقوله: (من نصر قومه على غير الحق؛ فهو كالبعير الذي ردي، وهو ينزع بذنبه)[صحيح أبي داوود].

فالحق يقبل وينصر من كل من قاله كائنا من كان، كما أن الباطل يرد على صاحبه كائنا من كان، دون اعتبار للعصبيات والأهواء الحزبية والعصبية للمشايخ، وإذا أردت أن تقف على أنموذج سامق من التجرد والإنصاف، فتأمل قول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: (من جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدا، ومن أتاك بباطل فاردده وإن كان حبيبا قريبا)[معجم الطبراني].

خامسا: المبادرة:
كثير من الخلافات تتجذر في صفوف الدعاة والتجمعات الإسلامية بسبب التعالي والمكابرة، حيث يرى أحدهم مفاسد الفرقة والاختلاف، فيحبسه كبره عن المبادرة إلى الإصلاح، ويحمل الآخرين المسؤولية، وينتظر منهم ما لا ينتظره من نفسه! وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله عن المتهاجرين: (يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا)، ولهذا كانت المبادرة إلى الإصلاح من المحامد التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)[البخاري والمسلم].

ولا شك أن المبادرة إلى الإصلاح تتطلب سعة صدر، وتواضعا، وتطامنا، وحرصا على الخير، وتأمل حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - أن رجلا قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: (لئن كنت كما تقول فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)[مسلم].

وهذا الحديث وإن كان في صلة الأرحام، إلا أن الصلة بين الدعاة وطلبة العلم شأنها عظيم، ومفاسد تقاطعهم كبيرة.
إن الإصلاح بين الدعاة يتطلب أفقا واسعا، ونظرا عميقا، وبعدا عن المحاباة أو الجور، قال الله – تعالى -: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب الـمقسطين}[الحجرات:٩]، ولا يتحقق ذلك القسط إلا بسلامة القصد، والتجرد من الأهواء، والحذر من محاباة أحد الأطراف؛ ولهذا عندما أمر الله – عز وجل – بإصلاح ذات البين صدر ذلك بالأمر بالتقوى، فقال: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} [الأنفال: ١]؛ لأن من اتقى الله – عز وجل – حق التقوى حسن قصده وترفع عن الخصومة والمنازعة، ومن علم الله – عز وجل – منه التجرد في الإصلاح؛ أعانه وسدده ورفع قدره، قال تعالى: {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما}[النساء:114]، وقال سبحانه: {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}[النساء:35].
نسأل الله – عز وجل – أن يجمع قلوبنا على الطاعات، ويؤلف بيننا على الصالحات، ويعيذنا من الفرقة والاختلاف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة