- اسم الكاتب:همام الحارثي
- التصنيف:خواطـر دعوية
أحيانا تضيق على العبد الدنيا وتغلق في وجهه جميع الأبواب، ويرى وضوح عجزه هو عن تغيير ما حوله، أو دفع الظلم الواقع عليه، أو رد مكر وكيد الكافرين والفاسقين والفاجرين فلا يجد أمامه إلا أن يلجأ إلى الله، ذلك الركن الوثيق، يشكو إليه ضعف قوته وقله حيلته وهوانه على الناس، ويسأله أن يمده بمدده وأن يعينه بقوته وألا يدعه نهبة لأعدائه أعداء الدين. وأن ينصره هو بأسباب نصره التي لم يعد في نفسه قدرة على الانتصار.
[اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
هذا الحديث رواه الطبراني وغيره وضعفوه... على أن أهل السير قد رووه.. ومثل هذا يتوجه جمهور أهل النقل إلى قبوله لتعدد مصادره وخفة القادح وبساطة الضعف. كما قرر مثل ذلك ابن تيمية في "قاعدة في التفسير"، واستدل به ابن القيم كثيرا في كتبه.
بهذا الدعاء توجه صلى الله عليه وسلم إلى ربه عند خروجه من الطائف التي ذهب إليها بعد أن سدت مكة آذانها وتغشت ثيابها وأغلقت أعينها وقلوبها عن سماع الحق ورؤية الحق وقبول الحق.
بل زاد طغيانها وتمردها وجعلت تحارب الدين الجديد وتنتقم من الإسلام في شخوص أتباعه فأذاقوا المسلمين الجدد الويلات فما يسمعون بأحد يدخل الدين إلا وذهبوا إليه فعذبوه أشد التعذيب ونكلوا به بكل صنوف النكال..
وسل بلالا، وعمار بن ياسر وأباه ياسر وأمه سمية وخبابا وما أدراك ما خباب، وصهيبا، وأبا فكيهة مولى بني عبد الدار..
وسل زنيرة وكانت أمة رومية عذبوها حتى عميت، فقالوا أصابتك اللات والعزى! فقالت: والله ما تدري اللات والعزى من عبدهما، وإنما هذا من الله ولو شاء كشفه.. فأصبحت وقد رد الله بصرها.. فقالو هذا من بعض سحر محمد.. وهي التي أنزل الله فيها: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه}.
وسل النهدية وابنتها، وأم عبيس، وجارية بني مؤمل كان يعذبها عمر حتى يكل فيتركها ويقول: والله ما أدعك إلا سآمة.. فتقول: وكذلك يفعل بك ربك.
فاشتراهم جميعا شيخ المسلمين أبو بكر رضي الله عنه وأعتقهم في سبيل الله.
لقد عانى من المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر المعاناة، ولقي منهم ما لقي، سبوه، وشتموه، وقالوا عنه ما قالوا، ووضعوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد يصلى، بل حاولوا قتله.. ثم حاصروه في الشعب (شعب أبي طالب هو وأصحابه) ثلاث سنين حتى أكلوا ورق الشجر وجلود الميتة.
وفي السنة العاشرة ماتت زوجه خديجة التي صدقته حين كذبه الناس، وآمنت به حين كفر الناس، وواسته بمالها حين حرمه الناس، ورزقه الله منها الولد وحرمه من غيرها.
ماتت خديجة خير سند في الداخل.. يلاقي ما يلاقي من المشركين ثم يذهب إليها فتمسح عنه الحزن وتزيل عنه الأذى، وتواسيه وتؤازره فكأن شيئا لم يكن.. ماتت فكان لموتها الأثر البالغ عليه.
ثم ما هي إلا أيام حتى مات عمه أبو طالب سنده في الخارج، فقد كانت قريش تهابه وتوقره وتحترمه، فما كان أحد يدخل على النبي بأذى إلا النادر، فلما مات عمه تجرأ عليه السفهاء وزاد عليه البلاء حتى تجرأ عليه أحدهم فنثر على رأسه التراب. فجاءت ابنته فاطمة تمسح عنه الأذى، وتغسل رأسه وتبكي، فيقول لها: [يابنية!! لا تحزني إن الله مانع أباك].
فلما رأى أنهم قد صمت آذانهم عن سماع الحق، وعميت عيونهم عن رؤيته، وأطبقت قلوبهم عن قبوله.. خرج يبحث عن مكان يجد فيه من يؤويه حتى يبلغ رسالة ربه فذهب إلى ثقيف في الطائف لعله يجد عندهم ما لم يجد في مكة، ولعل فيهم من يؤويه حتى يبلغ رسالات الله..
لكنه للأسف الشديد وجد قلوبا أشد قسوة، وعقولا أعظم تحجرا، ونفوسا أعماها الشرك والكبر، فكان إعراضهم أشد من إعراض الأولين، وردهم أسوأ وقولهم أقبح وأشنع.. ولم يكتفوا بذلك بل ألبوا عليه الحمقى وأغروا به السفهاء، فخرجوا وراءه يضربونه بالحجارة ويستهزئون فما زالوا يرجمونه بها حتى أدموا رأسه وأعقابه حتى ألجؤوه إلى حديقة لعتبة وشيبة ابني ربيعة.. فدخلها مبتعدا عنهم وجلس يستريح.
بشرى عداس:
ورآه شيبة وأخوه فرقوا لحاله فأرسلوا مع خادمهم وغلامهم عداس بقطف من عنب إليه ـ لا حبا ولكن هي مروءة العرب.. أتاه عداس بالقطف فقربه إليه.. فمد يده وقال بسم الله... فتعجب الغلام وقال إن هذا كلام لا يقوله أهل هذا المكان، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟ قال نينوى قال: بلد العبد الصالح يونس بن متى؟ فقال: وما أدراك أنت بيونس بن متى؟ قال: هو أخي كان نبيا وأنا نبي.. فلما سمع عداس منه ذلك أكب عليه يقبل يديه ورجليه وآمن به.. فكانت بشرى للنبي وتطييبا لخاطره.. فلما رآه سيداه قال أحدهما للآخر لقد أفسد علينا الغلام.. فلما رجع إليهما قالا: لا يفسد عليك دينك؛ فإن دينك أفضل من دينه.. فقال: ياسيدي إنه ليس على وجه الأرض أفضل من هذا الرجل.
ملك الجبال:
خرج النبي من عندهما راجعا مهموما حزينا يهيم على وجهه لا يلوي على شيء، وقد ضاقت به الأرض، وأحس أنه لا يملك من أمر نفسه ورسالته شيئا، فلما كان بقرن الثعالب دعا بالدعاء المشهور.. اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقله حيلتي وهواني على الناس...
فما كاد ينتهي من دعائه حتى أرسل الله إليه ملك الجبال فسلم عليه، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا](رواه مسلم)
فكان هذا أول النصر، وأن السماء معه فإن كان أهل الأرض قد ابتعدوا عنه ورفضوا إيواءه ونصره فإن من في السماء لن يتخلى عنه، ولن يسلمه..
إن هذا الموقف يعطينا صورة واضحة لمعاناة الداعية، وشدة ما يلقى ويعاني في دعوته، وجفاء بعض ـ أو كثير ـ من الناس، ووقوف البعض أمام نور الله يريد أن يطفئه، ويحاول أن يؤذي الأدلاء على الله، والداعين إليه، والهداة والحداة إلى طريقه، وأن كثيرا من الأذى قد يلحقهم فعلا في أنفسهم وأموالهم وأولادهم.. وأن الأمور قد تشتد بالعبد حتى يكاد اليأس أن يتسلل إليه، ويدب إلى قلبه... فعندها لا يجد ملجأ ولا ملاذا إلا عند الملك الذي بيده مقاليد الأمور، فيشكو ـ لا تبرما ـ ولكن اعتذارا عن محدودية قدرته، وعجز قوته، وقلة حيلته، فيطلب مدد السماء بعد أن ذهبت أسباب الأرض.. وعندها يأتي من اللطيف المدد، ويتنزل من العزيز النصر، ويأتي من عند الحكيم الفرج.. إنها دعوة للدعاة، ودرس للهداة وكل أصحاب الكروب ومواقف الضيق. إن الفرج مع الكرب، وإن النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسرا.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفــــــــارج الله
اليأس يقـطع أحــيانا بصـاحبه لا تيـــأسن فإن الكافـــــــــي الله
إذا بليت فثق بالله، و ارض به إن الذي يكشف البلوى هــو الله
الله يحدث بعد العــسر ميسـرة لا تجزعن فإن الصـــــــانع الله
والله مــالك غـير الله من أحــد فحســبـك الله في كل لــــــك الله