- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:مساوئ الأخلاق
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحنيفية السمحة وجعل الشريعة يسرا كلها فقال :{ وما جعل عليكم في الدين من حرج }، غير أن بعض الناس قد ينحرفون عن هذا الهدي فيشددون على أنفسهم أو على غيرهم سواء في أمر الدنيا أو الدين، لذلك كان حديثنا في هذا المقال عن التعسير والتشديد.
ومعنى التعسيرأن يشدد الإنسان على نفسه أو غيره في أمر الدين بالزيادة على المشروع، أو في أمر الدنيا بترك الأيسر ما لم يكن إثما.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". ( رواه البخاري).
قال ابن تيمية معلقا على هذا الحديث: (والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته : التي هي الاقتصاد في العبادة، وفي ترك الشهوات؛ خير من رهبانية النصارى، التي هي: ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلو في العبادات صوما وصلاة) ( اقتضاء الصراط المستقيم).
وقال ابن حجر: (قوله: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره فأعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه) ( فتح الباري).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" ( رواه مسلم).
قال ابن رجب: (هذا -أيضا- يدل على أن الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد وصف الله يوم القيامة بأنه يوم عسير، وأنه على الكافرين غير يسير، فدل على أنه يسير على غيرهم، وقال: {وكان يوما على الكافرين عسيرا} (الفرقان: 26).
والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين:
إما بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجب، كما قال تعالى:{ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }[البقرة: 280]، وتارة بالوضع عنه إن كان غريما، وإلا فبإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما له فضل عظيم) ( جامع العلوم والحكم).
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" ( البخاري ومسلم).
قال النووي: (جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على ((يسروا)) لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: ((ولا تعسروا)) انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في: ((يسرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) لأنهما قد يتطاوعان في وقت، ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء، ويختلفان في شيء.
وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف، وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير. وفيه تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسر على الداخل في الطاعة -أو المريد للدخول فيها- سهلت عليه، وكانت عاقبته -غالبا- التزايد منها، ومتى عسرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم، أو لا يستحليها...) ( شرح النووي على مسلم).
وعن أبي هريرة قال: "قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه، وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" ( البخاري).
قال العيني: (فيه مراعاة التيسير على الجاهل، والتألف للقلوب).
وأولى الناس بالتيسير الداعية إلى الله؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك المفتي عليه أن يراعي التيسير ورفع الحرج عن الناس.
يقول ابن العربي: (إذا جاء السائل عن مسألة، فوجدتم له مخلصا فيها، فلا تسألوه عن شيء، وإن لم تجدوا له مخلصا فحينئذ اسألوه عن تصرف أحواله وأقواله ونيته، عسى أن يكون له مخلصا).
قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه -وقد دخل في القائلة-: (يا أبت، على ما تقيل وقد تداركت عليك المظالم، لعل الموت يدركك في منامك، وأنت لم تقض دأب نفسك مما ورد عليك! قال: فشدد عليه، قال: فلما كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك، قال عمر: يا بني، إن نفسي مطيتي، وإن لم أرفق بها لم تبلغني، يا بني، لو شاء الله عز وجل أن ينزل القرآن جملة واحدة لفعل، نزل الآية بعد الآية حتى إبطاء ذلك في قلوبهم، يا بني، إني لم أجد الحقحقة (أي شدة السير) ترد إلى خير).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: لـما ذكر شيئا من مكائد الشيطان، قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيها ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس -إلا القليل- في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي. والقليل منهم الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه).
وقال ابن حجر: (لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز وانقطع، فيغلب).
التفريق بين طلب الأكمل في العبادة والتنطع فيها:
مما لا شك فيه أن العبد الذي يطلب الدرجات العلى والنعيم المقيم لابد أن يجتهد ويتعب ويترقى في مراتب الكمال الإيماني والتعبدي وغيره لكن هناك فرقا بين هذا التطلع للكمال وببين التشدد، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" ( البخاري ومسلم، والدلجة سير الليل).
قال ابن المنير: (في هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي الليل كله، ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة).
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاستزادة موسوعة نضرة النعيم