الرقابة الطبية في الحضارة الإسلامية

0 928
  • اسم الكاتب:المركز العربي للدراسات والابحاث

  • التصنيف:تاريخ و حضارة

واحدة من أبرز الأزمات التي يعانيها الجيل المسلم الحاضر هو جهله بتاريخ حضارته، كثيرون يندهشون إذا علموا أن المسلمين هم من علموا أوروبا النظافة، وإذا علموا أن شوارع الأندلس هي الوحيدة التي كانت تضاء ليلا في كل أوروبا، وأن المسلمين اكتشفوا العدوى قبل أوروبا بأكثر من ثمانية قرون، وغير هذا كثير.

إن هذا يكشف عن أمرين: أصالة الأمة التي تنحاز إلى هويتها وحضارتها حتى وهي لا تعرف عنها إلا النزر اليسير، وعن مسؤولية الباحثين في التاريخ والحضارة الإسلامية في كشف المزيد من صفحات هذه الحضارة الزاهرة، فبها يؤمن من كان لا يعلم ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
في السطور القادمة نرصد بعضا من إنجاز الحضارة الإسلامية في مجال الطب، وبالأخص في مجال مراقبة المهنة وتنظيم شؤونها والعاملين فيها.
منذ القرن الثالث الهجري ابتكر المسلمون نظام الشهادة الطبية التي تجيز للطبيب ممارسة المهنة، وكان أول من ابتكر "نظام الإجازة" هو سنان بن ثابت، فقد طلب الخليفة العباسي المعتضد (ت 279هـ) من سنان بن ثابت رئيس الأطباء امتحان جميع الأطباء ببغداد، وكانوا حوالي 860 طبيبا، وأمر المحتسب بعدم السماح لطبيب أن يمارس مهنته إلا بعد اجتياز الامتحان!

إلا أن أصول هذه "الإجازة الطبية" موجود من قبل هذا القرار؛ إذ يتحدث الطبيب الشامي علي بن إسحاق الرهاوي في كتابه "أدب الطبيب" – الذي ألفه في القرن الثالث الهجري - عن ضرورة أن يستوثق المريض من الطبيب "هل أخذ نفسه بالقبول من أفاضل صنعته؟ وهل هو ملتزم واجباته ومنته عما ينهى عنه".
وكان لكل تخصص طبي كتاب يمتحن فيه الطالب، فإذا استوعب الطالب تخصصه أجيز وأخذ الشهادة بذلك، وهذه الصورة من إجازة ابن النفيس لتلميذه أبي الفضل بن أبي الحسن في طب العيون كانت في استيعابه كتاب أبقراط في هذا التخصص:
"بحث معي الشيخ الحكيم العالم الفاضل شمس الدولة أبو الفضل بن الشيخ أبي الحسن أدام الله سعادته جميع كتابي هذا، وهو شرح كتاب الإمام أبقراط، وهو كتابه المعروف بطبيعة الإنسان كما دل على صفاء ذهنه واستقامة من خاطره والله تعالى ينفعه وينفع به. كتب الفقير إلى الله تعالى علي بن أبي الحزم القرشي المتطبب حامدا لله على نعمه ومصليا على خير أنبيائه محمد وآله مسلما. وذلك في التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة ثمان وستين وستمائة".

كانت الرقابة على الأطباء من مهمات مؤسسة الحسبة، وذكر المؤلفون في أمر الحسبة ما ينبغي على المحتسب أن يتابعه في أمر الأطباء:
- كان امتحان الأطباء الجدد يتم تحت إشراف المحتسب، فمن وجده مقصرا في علمه أمره بزيادة الدراسة، وأوقفه عن مزاولة التطبيب لحين ثبوت أهليته بعد اختبار جديد.
- أما من تثبت أهليتهم يقسمون القسم الطبي أمام المحتسب.
- يكلف الطبيب بأن يكتب دواءه للمريض كتابة يحتفظ بها أهله، وإذا ساءت حالة المريض أو توفي كان لأهل المريض أن يرجعوا بالرقع التي كتب عليها الدواء إلى شيخ صناعة الطب فإن كانت على مقتضى ما يقول به العلم كانت الوفاة قضاء وقدرا، وإن كانت على خلاف ذلك كان لأهل المريض مطالبة الطبيب بدية المتوفى بسبب سوء صناعته وإهماله.
- يشرف المحتسب على أعمال الأطباء والصيادلة وسلوكهم المهني.
- يراقب المحتسب الأدوات الطبية التي يستعملها الطبيب.
- والمحتسب هو الذي يتصدى لمن يمارس الطب دون علم أو خبرة.

وتكشف لنا كتب الحسبة عن حرص عال، وحساسية مرهفة في متابعة أمر الأطباء، ونسوق كمثال على هذا ما كتبه عبد الرحمن بن نصر الشيزري مؤلف "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة" حين عرض لبعض الأمور التي ينبغي للجراحين أن يلتزموا بها، وعلى أساسها يقوم عمل المحتسب في مراقبة أعمالهم.

وسنرى في هذه الفقرة التي ننقلها من كلامه عنايته بالجراح، مهارة أنامله، وقوة بصره، ثم استئذان أولياء المريض إن كان قاصرا، وضرورة أن يكون الأمر مستدعيا للجراحة، وضرورة أن تتم الجراحة في الوقت المناسب من حيث الأجواء القائمة واستعداد جسد المريض، وتجهيزات المكان من حيث الإضاءة القوية، وكذلك الحالة النفسية للجراح نفسه، وطبيعة المشرط المستعمل في الجراحة، ثم الاحتياطات والأدوات التي ينبغي على الطبيب استحضارها في حال الجراحة، والحالات التي يمنع فيها الجراحة، والحالات التي يحذر فيها إجراء الجراحة، وكيفية إمساك المشرط بحيث يكون متمكنا منه مسيطرا على حركته بدقة..
يقول:
"لا يتصدى للفصد إلا من اشتهرت معرفته بتشريح الأعضاء والعروق والعضل والشرايين، وأحاط بمعرفة تركيبها وكيفيتها، لئلا يقع المبضع (المشرط) في عرق غير مقصود أو في عضلة أو شريان، فيؤدي إلى زمانة العضو وهلاك المقصود؛ فكثير هلك من ذلك.
ومن أراد تعلم الفصد فليدمن فصد ورق [نبات] الشلق -أعني العروق التي في الورقة- حتى تستقيم يده، وينبغي للفاصد أن يمنع نفسه من عمل صناعة مهينة، تكسب أنامله صلابة وعسر حس، لا يتأتى معها نبش العروق؛ وأن يراعي بصره بالأكحال المقوية له ، إن كان ممن يحتاج إليها؛ وألا يفصد عبدا إلا بإذن مولاه، ولا صبيا إلا بإذن وليه، ولا حاملا ولا طامثا (أي امرأة في وقت الحيض)؛ وألا يفصد إلا في مكان مضيء وبآلة ماضية (أي: مشرط حاد)؛ وألا يفصد وهو منزعج الجنان (أي: مضطرب أو غاضب).

وبالجملة ينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم العهد والميثاق ألا يفصدوا في عشرة أمزجة (أي: حالات)، وليحذروا فيها حذرا، إلا بعد مشاورة الأطباء، وهي: في السن القاصر عن الرابع عشر، وفي سن الشيخوخة، وفي الأبدان الشديدة القضافة (أي: الأجساد النحيفة)، وفي الأبدان الشديدة السمن، وفي الأبدان المتخلخلة، وفي الأبدان البيض المرهلة، وفي الأبدان الصفر العديمة الدم (أي: المصابة بفقر الدم)، وفي الأبدان التي طالت بها الأمراض، وفي المزاج الشديد البرد، وعند الوجع الشديد؛ فهذه الأحوال يجب أن تكشف على الفاصد عند وجودها.
وقد نهت الأطباء عن الفصد في خمسة أحوال أيضا، ولكن مضرته دون مضرة العشرة المتقدم ذكرها؛ فالحالة الأولى الفصد عقيب الجماع، وبعد الاستحمام المحلل، وفي حال الامتلاء من الطعام، وفي حالة امتلاء المعدة والأمعاء من الثقل، وفي حالة شدة البرد والحر ؛ فهذه أحوال يتوقى الفصد فيها أيضا.
واعلم أن الفصد له وقتان: وقت اختيار ووقت اضطرار، فأما وقت الاختيار، فهو ضحوة نهار بعد تمام الهضم والنقص، وأما وقت الاضطرار فهو الوقت الموجب الذي لا يتسع تأخيره، ولا يلتفت فيه إلى سبب مانع.
وينبغي للمفتصد ألا يمتلئ من الطعام بعده، بل يتدرج في الغذاء ويلطفه؛ ولا يرتاض بعده، بل يميل إلى الاستلقاء؛ ويحذر النوم عقيب الفصد ؛ فإنه يحدث انكسارا في الأعضاء؛ ومن افتصد وتورمت عليه اليد افتصد في اليد الأخرى، بمقدار الاحتمال.

وينبغي أن يكون مع الفاصد مباضع كثيرة، من ذوات الشعيرة وغيرها (أي مختلفة الأحجام والمقاسات)؛ وأن يكون معه كبة من حرير أو خز، أو شيء من آلة القيء، من خشب أو ريش، وينبغي أن يكون معه وبر الأرنب، ودواء الصبر والكندر، وصفته أن يؤخذ من الكندر والصبر والمر ودم الأخوين، من كل واحد جزء، ومن القلقطار والزاج من كل واحد نصف جزء؛ ويجمع الجميع، ويعمل كالمرهم ؛ ويرفعه عنده لوقت الحاجة إليه، وينبغي أن يكون معه نافجة مسك وأقراص المسك، ويعتد بجميع ما ذكرناه، حتى إذا عرض للمفصود غشي بادر فألقم الموضع كبة الحرير، وألقمه بآلة القيء، وشممه النافجة، وجرعه من أقراص المسك شيئا، فتنعش قوته بذلك، وإن حدث فتوق (نزيف) دم، من عرق أو شريان، حشاه بوبر الأرنب ودواء الكندر المذكور.
ولا يضرب [الفاصد] بمبضع كال (أي: غير حاد)، فإنه كبير المضرة؛ لأنه يخطئ فلا يلحق العرق، فيورم ويوجع، وليمسح رأس مبضعه (المشرط) بالزيت، فإنه لا يوجع عند البضع، غير أنه لا يلتحم سريعا.
وإذا أخذ المبضع فليأخذه بالإبهام والوسطى، ويترك السبابة للجس؛ ويكون الأخذ على نصف المبضع، ولا يكون فوق ذلك، فيكون التمكن منه مضطربا، ولا يدفع المبضع باليد غمزا، بل يدفع بالاختلاس، ليوصل طرف المبضع حشو العروق.

ومتى تغير لون الدم، أو حدث غشي (إغماء) وضعف في النبض، فليبادر [الفاصد] إلى شد العرق ومسكه".
ومضى الشيزري في شرح أنواع العروق وطريقة العمل في كل منها، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتاب نفسه، وإنما كان القصد بيان الدرجة التي وصل إليها أمر متابعة الطبيب والرقابة على عمله في الحضارة الإسلامية التي جهلت بأثر من التغريب، وتيارات الغزو الفكري، والإعلام الذي لا ينتمي إلى الأمة وهويتها حتى الآن، واستبداد جثم على الأمة قرونا حتى أنزلها من مكانتها إلى حيث صارت ثم عمل على إلحاقها بعدوها في مقام التابع وقد كانت في مقام القائد.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة