الابتلاء في السيرة النبوية

0 1928

الابتلاء من سنن الله الظاهرة في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأنبياء من قبله، فليس البلاء قاصرا على أحد، وإن تباينت صوره و تفاوتت مراتبه ومراتب الناس فيه تبعا لذلك، وما ادعى أحد إيمانا بالله ـ عز وجل ـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا كان له نصيب من الابتلاء، قال الله تعالى: { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين }(الأنعام:34)، وقال: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }(العنكبوت: 2 : 3)، وقال: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }(البقرة: 214) . وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: ( قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟، قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ) رواه أحمد .

لقد تعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للكثير من الأذى والمحن في مواقف متعددة من حياته، وكان ذلك على قدر الرسالة التي حملها، فقريش أغلقت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وتعرضت له ولأصحابه بالسخرية والإيذاء، وحوصر مع أصحابه ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، الذي لاقوا فيه الجوع والحرمان، والنصب والتعب الشديد .. ومع ذلك كله فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماض في طريق دينه ودعوته، صابر لأمر ربه، إشفاقا على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وليكون قدوة للمسلم في كل زمان ومكان في الصبر على البلاء .

وسنة الابتلاء في حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعبر عنها ورقة بن نوفل في أول يوم من أيام النبوة حين قال: ( يا ليتني فيها جذعا ( ليتني أكون حيا ) إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجي هم؟!، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي ) رواه البخاري .
وعن عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ قال: ( سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: بينا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ) رواه البخاري .
وعن عمرو بن ميمون ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر ـ لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: اللهم عليك بقريش ـ ثلاث مرات ـ، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته ) رواه البخاري .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: ( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد، إلا ما وارى إبط بلال ) رواه الترمذي .

ابتلاء وتفاؤل :

مواقف الأذى والابتلاء التي تعرض لها صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة ومتعددة، لاقوا فيه أشد أصناف العذاب، ويصور لنا خباب ـ رضي الله عنه ـ مدى الأذى والبلاء الذي تعرضوا له حين قال : ( شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟، ألا تدعو الله لنا ؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ) رواه البخاري .
هذا الأسلوب في الطلب من خباب ـ رضي الله عنه ـ حين قال: " ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ " يوحي بما وراءه، وأنه صادر من قلوب وأبدان أنهكها العذاب، فهي تلتمس الفرج والنصر العاجل، ومع ذلك أعلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه أن الابتلاء سنة من سنن الله في خلقه، فقال لخباب: ( كان الرجل فيمن قبلكم ) .
لقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع البلاء الواقع عليه، يشعر بما يعانيه أصحابه من أذى وبلاء، ويتألم له، لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يربي أصحابه ومن يأتي بعدهم على أن الابتلاء من سنن الله، وأنه قبل النصر لابد من البلاء والصبر، فالرسل وأتباعهم يبتلون ثم تكون لهم العاقبة، قال الله تعالى: { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين }(سورة يوسف، الآية:110) .

ومع تربيته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لأصحابه على الصبر على الابتلاء، كان يبث التفاؤل والثقة في قلوبهم، ويفيض عليهم مما أفاض الله عليه من أمل مشرق في انتصار الإسلام وانتشاره، فمن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون )، وقوله: ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر ) رواه أحمد .

من حكم الابتلاء :

قد يظن البعض أن نزول البلاء علامة على غضب الله، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى ذلك، وجعل البلاء علامة على حب الله لعبده، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي .

والابتلاء فيه تمحيص وتنقية للصف المسلم من المنافقين، وتمييز للخبيث من الطيب، قال الله تعالى: { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}(العنكبوت: 3)، وقال: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب }(آل عمران: من الآية179) .
ثم إن قيادة البشرية والأخذ بيدها إلى نور الهداية والخير يحتاج إلى جيل فريد، لا يهتز أمام الابتلاءات، ولا يضعف أمام المحن، ولا شك أن ذلك يحتاج إلى رجال مؤمنين صادقين، صابرين محتسبين، ثابتين على الحق لا يستعجلون الثمرات والنتائج، رجال قال الله عنهم: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }(الأحزاب:23) .

كما أن للابتلاء فوائد كثيرة، منها: التحلي بالإنابة إلى الله، والإقبال عليه، والإكثار من التضرع والدعاء، والتطهر من الذنوب والخطايا، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه ) رواه البخاري .
قال المناوي في فيض القدير : ( ما من مصيبة ) أي : نازلة، و أصلها الرمي بالسهم ثم استعيرت لما ذكر، ( إلا كفر الله بها عنه ) ذنوبه، أي محي خطيئاته بمقابلتها " .
وقال ابن حجر في كلامه على الحكم من ابتلاء المسلمين في غزوة أحد : " قال العلماء: ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب .. ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس، وكسرا لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا، وجزع المنافقون .. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها " .

إذا كان الإيذاء والابتلاء قد نال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام، فلم يعد هناك أحد لفضله أو علو منزلته أكبر من الابتلاء والمحن، فتلك سنة الله مع الأنبياء والمؤمنين، وعلى ذلك ربى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه، ومن ثم فينبغي على المسلم الثبات على دينه ودعوته، فلا يضعف أو يحيد عن طريق الله إذا ما عانى شيئا من الأذى والابتلاء، فقد سبقه في ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، وليعلم أنه كلما اشتد الظلام أوشك طلوع الفجر، وكلما ازدادت المحن والابتلاءات، قرب مجيء النصر، وهذا درس من دروس السيرة النبوية المطهرة، قال الله تعالى: { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين }(يوسف:110) ..
 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة