اشفعوا تؤجروا

0 1265

في بعض المجتمعات تشيع الوساطة بين الناس لقضاء مصالحهم وتحقيق مآربهم، وقد تكون هذه الوساطة أو الشفاعة حسنة للوصول إلى أغراض مشروعة، وقد تكون سيئة أو ضارة لإلحاقها أذى بالغير، ولمساسها بمعاني العدل والمساواة التي ينبغي أن يتعامل الناس بها، وهذا هو ما عبر عنه القرآن الكريم في قول الله تعالى: { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا }(النساء:85).
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: " قال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وغيرهم: هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع شفاعة لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله الكفل، والكفل: الوزر والإثم، وقيل: الشفاعة الحسنة في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي، فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم " .

وقد رغب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشفاعة الحسنة، فعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أتاه طالب حاجة، أقبل على جلسائه فقال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب ) رواه البخاري . وفي رواية: ( ما شاء ) .
والحديث يدل علي الترغيب في الشفاعة الحسنة لقضاء الحاجات، وأن فيها أجرا، سواء تحقق المراد أم لا .
قال ابن حجر في الفتح: " في الحديث الحض علي الخير بالفعل، وبالتسبب إليه بكل وجه " .
وقال ابن بطال: " الشفاعة في الصدقة وسائر أفعال البر، مرغب فيها، مندوب إليها، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( اشفعوا تؤجروا )، فندب أمته إلى السعي في حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ) أن الساعي مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه ولم تنجح طلبته، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) رواه الترمذي " .

ومن أمثلة الشفاعة الحسنة: شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بريرة مولاة عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ مع زوجها مغيث الذي كان عبدا، وأعتقتها عائشة ـ رضي الله عنها ـ، فخيرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فاختارت نفسها، أي عدم البقاء مع زوجها في العبودية، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قصة بريرة وزوجها، قال: قال لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لو راجعتيه؟، قالت: يا رسول الله تأمرني؟!، قال:إنما أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه ) رواه البخاري .
وشفع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك - لجابر - رضي الله عنه - عند يهودي بدين كان له عند جابر، فلم يقبل اليهودي هذه الشفاعة، فدعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجابر بالبركة .
فلم تقبل بريرة شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عظم قدره عندها، ولم ينقص عدم قبول اليهودي لشفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قدره، بل يسر الله - تعالى - قضاء دين جابر ببركة دعائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأوفى اليهودي حقه وبقي عند جابر خير .

وحين يحثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشفاعة، فإنه يوصينا بأمر لا غناء لنا عنه، وهو الإخلاص لله، فلا نبتغي بشفاعتنا مدحا أو عطاء من أحد، قال الله تعالى: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا }(الإنسان: 9 : 12) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) رواه البخاري .
وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ) رواه أبو داود .

والشفاعة في هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تمدح مطلقا، فمنها ما هو حسن يحبه الله ويثيب عليه ويجعل صاحبه شريكا في الأجر، ومنها ما يمقته الله ويجعل صاحبها شريكا في الوزر، وهي الشفاعة السيئة، قال الله تعالى: { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها }(النساء: 85).
والشفاعة السيئة المنهي عنها هي التي تؤدي إلى ضياع الحقوق، أو التعدي على حدود الله، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم ـ عنها، وذلك حين رفض شفاعة أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ في المرأة المخزومية التي سرقت وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطع يدها . 
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ( أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ فقال له أسامة: استغفر الله لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله تعالى بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا اسرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها ) رواه البخاري .
قال الشيخ ابن عثيمين: " وهذه المرأة المخزومية دون فاطمة ـ رضي الله عنها ـ شرفا ونسبا، ومع ذلك فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها ) وذلك لسد باب الشفاعة والوساطة في الحدود، وقال عليه الصلاة والسلام : ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره ) رواه أحمد " .

وبوب النووي في شرحه لصحيح مسلم: ( باب تحريم الشفاعة في الحدود ) .
ويفرق الشوكاني بين الشفاعة الحسنة والسيئة فيقول: " والشفاعة الحسنة هي: في البر والطاعة، والشفاعة السيئة في المعاصي، فمن شفع في الخير لينفع، فله نصيب منها، أي: من أجرها، ومن شفع في الشر، كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها، أي: نصيب من وزرها " .
والضابط العام من هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته: أن الشفاعة الحسنة هي: ما كانت فيما استحسنه الشرع، والسيئة فيما كرهه وحرمه .

لقد علمنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن دروب الخير كثيرة، وأنواع البر متعددة، ومن أعظم ذلك السعي في حوائج المسلمين، والإحسان إلى المؤمنين، من إطعام للجائع، وكسوة للعاري، وعيادة للمريض، وتعليم للجاهل، وإنظار للمعسر، وإعانة للعاجز، وكفالة لليتيم، وتفريج للهم، وتنفيس للكرب، وشفاعة في الخير، ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، وخير الناس أنفعهم للناس، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) رواه مسلم، وقال: ( اشفعوا تؤجروا ) رواه البخاري .

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة