العبودية بين التوحيد والإخلاص

1 1358

إن تحديد المصطلحات وتوضيح دلالتها ومفاهيمها يساعد أهل العلم على إزالة الإشكال في الفهم، ويضيق من دائرة الخلاف بينهم، كما يفتح الباب للوصول إلى الحق بعيدا عن أهواء وحظوظ النفوس التي نهانا الشرع الحنيف عنها؛ إذ تؤدي إلى توسيع دائرة الفرقة والخلاف بين المسلمين المأمورين بالتأصيل العلمي والشرعي لتوحيد الرؤية، وخاصة في المسائل العقدية وكليات الدين وأصوله.

على أن من العلماء من يستعمل لفظ الإخلاص بدل لفظ التوحيد ؛ لاعتقادهم أن مصطلح التوحيد لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ! وأنه طارئ في الفكر والعقيدة الإسلاميين، بينما ورد مصطلح الإخلاص في عدد من آي الذكر الحكيم، بل هناك سورة في القرآن الكريم اسمها سورة الإخلاص .

وفي رأيي أن الخلط بين هذين المصطلحين إنما يعود لعدة أمور؛ إما لعدم فهم دلالتهما فهما سليما ضمن السياق القرآني، ووفق قواعد وضوابط العقيدة عند أهل السنة والجماعة؛ وإما لأن هذه الرؤية ناتجة عن هوى خفي في النفس؛ أو بسبب ردود الأفعال تجاه رؤى وأفكار تصنف في خانة الفكر المخالف.

مصطلح التوحيد:
التوحيد في اللغة:
وحد: أصل واحد يدل على الانفراد [مقاييس اللغة]، وتوحد: بقي مفردا، ووحده توحيدا: جعله واحدا، والأوحد والمتوحد: ذو الوحدانية [مختار القاموس56].
والله هو الواحد الأحد:ذو الوحدانية والتوحد.

والتوحيد في الاصطلاح الشرعي: هو الإيمان بالله - تعالى - وحده، والشهادة بأنه واحد لا شريك له [مختار القاموس560].

وفسر أهل السنة التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل والمنادة؛ فالله - عز وجل - منفرد بذاته وصفاته وأفعاله لا نظير له ولا شبيه له، متفرد بصفات الكمال ونعوت الجلال، فهو واحد في ذاته وفي صفاته لا مثيل له، وفي ألوهيته وملكه وتدبيره لا شريك له، ولا رب سواه، ولا إله غيره [عقيدة التوحيد 113].

مصطلح الإخلاص:
الإخلاص في اللغة:
خلص: معناه: تنقية الشيء وتهذيبه [مقاييس اللغة 2/208]، وخلص خلوصا وخالصة: صار خالصا، والخالص: كل شيء أبيض يمتاز بالصفاء كالثلج.
وأخلصه وخلصه وأخلص لله دينه: أمحضه، والمخلص الذي أخلصه الله - تعالى - وجعله مختارا خالصا من الدنس [ابن فارس1/877].

الإخلاص في الاصطلاح الشرعي: هو ترك الرياء والسمعة، وهو إسلام الوجه لله بإخلاص القصد والعمل له.
وقيل: هو إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة، وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: استواء أعمال العبد في السريرة والعلانية، وقيل: تصفية العمل من كل شوب [تهذيب المدارج:321].

صيغ التوحيد والإخلاص كما جاءت في القرآن الكريم:
جاءت صيغ التوحيد في القرآن الكريم أربعا:
1 - وحده: { وإذا ذكرت ربك في القرءان وحده ولوا على أدبارهم نفورا } ( الإسراء: 46 ).
2 - واحد: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } ( البقرة:163 )
3 - واحدا: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } ( التوبة: 31 ).
4 - أحد: {قل هو الله أحد} (الإخلاص:1).

كما جاءت صيغ الإخلاص في الكتاب العزيز أيضا متعددة:
1 - مخلصا: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين} (الزمر:2).
2 - الخالص {ألا لله الدين الخالص} (الزمر: 3).
3 - مخلصون: {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون} (البقرة:139).
4 - مخلصين: {هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين} (غافر:65).

الفرق بين التوحيد والإخلاص:
التوحيد:
التوحيد متعلق بألوهية الله - عز وجل - وربوبيته وأسمائه وصفاته وحده لا شريك له، وهذا الإفراد في الاعتقاد والخبر نوعان:
الأول: إثبات مباينة الرب - تعالى - للمخلوقات وعلوه فوق سبع سماوات واستوائه على عرشه كما يليق بجلاله، وفق ما جاءت به الكتب المنزلة وأخبرت به جميع الرسل.

والثاني: إفراده - سبحانه - بصفات الكمال وإثباتها له على وجه التفصيل، كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسله؛ منزهة عن التكييف والتحريف والتعطيل والتمثيل [تهذيب المدارج:646].

وقد أفرد الإمام الكبير أبو عبد الله البخاري حيزا للتوحيد في جامعه الصحيح سماه: (كتاب التوحيد)، وجاء في الباب الأول: باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى.

الإخلاص: أما الإخلاص فمتعلق بالعبد؛ إذ لا يصلح إيمانه ولا تصلح عبادته إلا به.
ولذلك نجد الخطاب في القرآن الكريم موجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفته قدوة للمؤمنين وأسوة لهم، يدعوه أن يعبد الله وحده بلا شريك، ويدعو الخلق إلى ذلك، ويعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا بالإخلاص لله - تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين} (الزمر:2).

وفي الآية الكريمة التي تليها قال الله عز وجل: {ألا لله الدين الخالص} (الزمر:3)، أي: لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له [تفسير ابن كثير8: 84].

وفي السورة الكريمة نفسها؛ أمر الله - جل ذكره - نبيه الكريم بالإخلاص المحض في العبادة: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} (الزمر:11).

وفي السياق ذاته يأتي منطوق الآيتين الكريمتين (14،15)؛ ليؤكد أمر إخلاص العبادة لله تعالى؛ مهددا ومتوعدا من يتبع هواه في العبادة: {قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه} (الزمر:14-15).

ولذلك سميت هذه السورة الكريمة (سورة الزمر) بسورة الإخلاص الكبرى، لما جاء فيها من تأكيد على إخلاص العبادة لله وحده، ونبذ الأنداد، وترك الرياء والسمعة، واستفراغ الجهد في الطاعة ظاهرة وباطنة، وأن يكون قصد العبد هو الله - تعالى - وحده لا شريك له.

الخلاصة:
وهكذا، فإن التوحيد قاعدة تصور ومعرفة لله - سبحانه وتعالى - في ذاته وأفعاله وصفاته، وأنه ليس كمثله شيء.
وهذه المعرفة تجعل الإنسان صاحب تصور صحيح ودقيق عن الخالق، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة، وأن أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه.

ولهذا ينبغي التقيد بما وصف به الرب - جل ثناؤه - نفسه من الصفات، وسمى نفسه من الأسماء؛ ليكون المؤمن صاحب معرفة صحيحة ودقيقة في توحيد الخالق جل وعلا، فتكون معاملته للخالق - سبحانه - على الوجه الصحيح والمطلوب في الإثبات والمعرفة، وفي الإرادة والقصد؛ فيجرد العبادة له: حبا، وتعظيما، وخوفا، ورجاء، وصدقا، وإخلاصا، وإنابة، وإخباتا، وتوكلا، واستعانة.

أما الإخلاص فعمل قلبي محض تنعكس آثاره على الجوارح، وهو روح الأعمال؛ إذ نسبته للعمل كالروح للجسد. وعلى قدر ما يحقق العبد الإخلاص في اعتقاده وعمله يكون ترقيه في سلك المخلصين.

وعلى هذا النحو، ينبغي التفريق بين مصطلح التوحيد ومصطلح الإخلاص؛ لأن الدلالات تختلف والعلاقات تتشابك؛ فالتوحيد إفراد لله - تعالى – بالربوبية والألوهية وصفات الكمال ونعوت الجلال، والإخلاص هو روح الأعمال بالنسبة للعباد، وهو الفرقان بين التوحيد والشرك.
ـــــــــــــــــــــــ
مجلة البيان

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة