ماهية الهوية وكيفية الحفاظ عليها(1-3)

0 1450
  • اسم الكاتب:رمضان الغنام (مركز تأصيل)

  • التصنيف:ثقافة و فكر

على الرغم من كثرة الكتابات في موضوع الهوية، وكثرة التحذيرات من الانسياق وراء كل ما يصدر عن الغرب من أفكار وآراء ومعتقدات؛ إلا أن واقعنا ينذر بخطر شديد فيما يخص هويتنا الإسلامية والعربية، وتعرضها لاختراقات وهجمات من قبل الغرب على مختلف توجهاته وانتماءاته.

ومسألة ضياع الهوية الإسلامية، وانسلاخ المسلمين عنها؛ صورها لنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم القائل فيه: "لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه" (أخرجه الحاكم في المستدرك ، صححه الألباني).

وفي رواية: قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن إلا اليهود والنصارى؟!".

فهذا الحديث يصور لنا مسألة الانسلاخ عن الهوية الإسلامية وضياعها، وبقدر القرب منه أو البعد نقترب ونبتعد عن مسألة الهوية.

تعريف الهوية والهوية الإسلامية:

وردت كلمة هوية في معاجم اللغة بمعنى: "بئر بعيدة المهواة"، وقيل: هي تصغير كلمة (هوة)، وهي: "كل وهدة عميقة"(المعجم الفلسفي - مجمع اللغة العربية؛ ص: [208]، المطابع الأمرية - القاهرة 1403هـ، 1983م).

والهوية بالمعنى الفلسفي تعني حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات (لسان العرب لابن منظور: [15/375-376]، دار صادر- بيروت).

وهي بهذا المعنى تتساوى مع مصطلح (هو هو) الفلسفي، والذي يشير إلى ثبات الشيء بالرغم مما يطرأ عليه من تغيرات، فالجوهر هو هو وإن تغيرت أعراضه (لسان العرب لابن منظور؛ ص: [207]، دار صادر- بيروت).

وقد ورد هذا المصطلح (هو هو) بنفس المعنى السابق في حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت: "كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين ساقطين، يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟" قال: نعم والله، قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: فما في نفسك؟ أجاب: عداوته والله ما بقيت" (السيرة النبوية لابن هشام: [3/52]، دار الجيل- بيروت ط1- 1411هـ).

فقول أبي ياسر (أهو هو) إشارة إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته الموصوف بها في التوراة.

وعرفها ابن حزم بقوله: "وحد الهوية هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه، إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتة، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر" (الفصل في الملل والنحل لابن حزم الظاهري: [2/107] مكتبة الخانجي- القاهرة).

أما الهوية الإسلامية فنقصد بها: "الإيمان بعقيدة هذه الأمة، والاعتزاز بالانتماء إليها، واحترام قيمها الحضارية والثقافية، وإبراز الشعائر الإسلامية، والاعتزاز والتمسك بها، والشعور بالتميز والاستقلالية الفردية والجماعية، والقيام بحق الرسالة وواجب البلاغ، والشهادة على الناس" (الهوية الإسلامية لخليل نوري: ص: [45]).

الهوية الإسلامية والقومية العربية:

لكن الذي يؤسف له أن كثيرا من كتابنا ومثقفينا - في محيطنا العربي - قد سطحوا من مسألة الهوية، وهمشوا من محتواها الإسلامي والعقدي، بل ربما ألغوه تماما، ومن ثم قصروا مفهوم الهوية على الانتماء للعربية، وبعض المظاهر الحضارية والثقافية والفنية المرتبطة بذلك، والتي تبلورت فيما بعد في فكرة القومية العربية، ولا يخفى على أحد خطورة هذا المنحى، فالقومية العربية حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحدة لهم على أساس من رابطة الدم واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين، وهي صدى للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوروبا (ينظر: الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة: [1/ 444-445]- دار الندوة).

وظهرت هذه الدعوة على يد ثلة من المفكرين النصارى للاستعاضة والحد من فكرة الأمة الإسلامية؛ لتكون فكرة القومية بذلك هي الطعنة الثانية في جسد الأمة الإسلامية بعد سقوط الخلافة على يد أتاتورك عام 1924م.

و"الطابع الأبرز لفكرة القومية العربية أنها قد واكبها منذ نشأتها خطاب بعيد عن الموضوعية، وإيجاد الحلول العملية الحقيقية لبناء أمة؛ حيث كانت "العواطف" هي صاحبة الدور الأبرز في تسويق هذه الفكرة في كيان الأمة الإسلامية، وأما دورها الموضوعي التطبيقي في بناء أمة لها نظامها الخاص الفريد المنبثق عن مفاهيمها فكل ذلك كان عائشا في منطقة العدم؛ إذ لا يوجد نظام متكامل ينبثق عن الفكرة القومية، وقد وجدنا أن حملة هذه الفكرة قد أقاموا أنظمة ودولا تحكم الأمة ولا علاقة لها بالفكرة القومية كالملكية والاشتراكية والديمقراطية، فهذه كلها غير مبنية على الفكرة القومية؛ مما يظهر قصورها "وإنشائيتها" على حساب الواقعية التي ينبغي أن تتسم بها الهوية التي تجمع الأمة التي ينبغي أن تجيب عن أسئلة النهضة، وبناء الأمم والحضارات" (مقال: القومية العربية كهوية - شريف محمد جابر- موقع شبكة الألوكة).

والإشكالية الأخرى في مسألة القومية والهوية أن العرب ككتلة بشرية ومساحة جغرافية لا يجمعهم تاريخ واحد، ولا ثقافة واحدة، فلكل إقليم تاريخه الخاص، وثقافته المرتبطة بظروفه وعاداته وتقاليده، بل أن اللغة تعجز أحيانا عن جمع شتاتهم نظرا لاختلاف اللهجات واللكنات، فـ"الواقع التاريخي يسجل أن المنطقة العربية عجت بثقافات مختلفة متباينة، بل ومتناقضة في بعض الأحيان، فالثقافة الجاهلية التي عاشت في عقول العرب قبل الإسلام؛ مختلفة أشد الاختلاف عن الثقافة الإسلامية التي ظللتهم وظللت المنطقة على مدى أكثر من ثلاثة عشر قرنا، فإلى أيها ننتمي؟ وكيف ننتمي إلى جميع ما عج في المنطقة من ثقافات وهي متباينة مختلفة؟ هل ينتمي الإنسان إلى متناقضات تتنازعه وتشتت وحدة كيانه؟!" (مقال: القومية العربية كهوية - شريف محمد جابر- موقع شبكة الألوكة).

هل يوجد تعارض بين الهوية الإسلامية والانتماء الوطني؟

في هذا الصدد يظهر مصطلحان يتعمد البعض الخلط بينهما، الأول منهما هو مصطلح (الوطنية)، والثاني (حب الوطن)، والفرق بينهما وبين مدلولهما كبير، فمسألة حب الوطن مسألة قديمة قدم الإنسان، حيث تعود الإنسان على حب مسكنه، ومربع طفولته، ومرتع صباه وشبابه، وهو معنى جميل، وخلق راق، لا تعارض بينه وبين مفهوم الهوية الإسلامية، بل المسلمون الصادقون من أشد الناس حبا لأوطانهم، ومن أكثرهم حرصا على جلب الخير، ودفع الضر عنها.

وأما الإشكالية والخلط فيقع في مفهوم (الوطنية)، وهو مفهوم حديث ظهر بعد سقوط الخلافة، وتفتت العالم الإسلامي وانشطاره إلى دويلات صغيرة، وهو مصطلح قد يعمل على إثارة النزعات والعصبيات بين أفراد الأمة الواحدة، بعيدا عن رابط الدين والعقيدة، ويعني الانتماء إلى الأرض والناس، والعادات والتقاليد، والفخر بالتاريخ، والتفاني في خدمة الوطن، بعيدا عن لحمة الدين، وبذلك تفتت الهوية الإسلامية العامة إلى هويات خاصة، فظهرت هوية مصرية، وأخرى جزائرية، وثالثة عراقية، وصارت العصبيات هي المحرك الأساسي لهذه القوميات والهويات، وربما نشبت بينهم الحروب لأتفه الأسباب.

ولذلك نقول: إن أحب الأوطان لنا هي مكة المكرمة، ثم المدينة المنورة، ثم بيت المقدس، وأما عدا ذلك من بلاد الإسلام فلا نفاضل بينها عصبية، مع احتفاظنا بالحب الفطري والجبلي لأماكننا وبلادنا التي تربينا فيها، ورتعنا وشربنا من مائها.

الليبرالية وتمييع الهويات:

لا يخفي على أحد أن الليبرالية صنيعة غريبة، بل هي آخر منتج خارج من دولاب الفلسفات والمذاهب الغربية، وهي بحق أنضجها، حيث جاءت بعد عناء طويل تعددت فيه السقطات والإخفاقات، جاءت الليبرالية لتصلح ما أفسدته أنظمة كثيرة كالشيوعية والرأسمالية، والعلمانية... وغيرها من المذاهب والفلسفات الغربية هذا من جانب، ومن جانب آخر جاءت لتحل محل الهويات المناوئة للهوية الغربية، وفي محيطنا العربي والإسلامي سعت الليبرالية منذ أن حطت رحالها إلى تذويب الهوية الإسلامية، ومحو معالمها.

فجاءت الليبرالية على عكس القومية لتجعل من المجتمع الواحد مجتمعا مهترئا، لا رابط بين أفراده، ولا هم ولا قضية تجمع بينهم، فلا حاكم لأصحابها إلا الغريزة، ولا هدف لهم إلا الانفكاك من كل قيد، والأخطر من ذلك أنها سعت إلى إماتة كل العصبيات والهويات الصالح منها والفاسد، فبالإضافة إلى سعيها إلى القضاء على الهوية القومية والوطنية؛ قضت على الهوية الإسلامية، ومن ثم قضت على الشعور بالعداء نحو أي محتل، وأصدق مثال على هذا ما حدث في العراق وأفغانستان حيث وجدنا هذا الصنف من المفكرين من أوائل من ارتمى في أحضان الغزاة، وزينوا لهم أعمالهم بحجة الإرهاب، ونشر الديمقراطية.
 

ونكمل في مقال قادم إن شاء الله ، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة