المدح في السنة النبوية

0 1881

المدح والثناء من الأمور التي تسر بها النفوس، وتحفزها على زيادة العطاء، فيحتاجه الأب في بيته، والداعية مع طلابه، والرئيس مع مرؤوسيه، فيثني على من يستحق الثناء، ويشيد بعمله تحفيزا له على الزيادة والاستمرار فيه، وحثا لغيره لينافسه في البذل وحسن العمل، ولذلك كان المدح وسيلة تربوية اتبعها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صحابته ـ رضوان الله عليهم ـ .
والمدح في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه ما هو محمود مباح، ومنه ما هو مذموم منهي عنه، والأمثلة والصور على ذلك من سيرته وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة، منها : 

المدح المحمود :

من المدح المحمود: مدح الشخص بما فيه قبل توجيهه ونصحه، فيقدم الناصح بين يدي نصيحته الثناء على المنصوح، وذكر بعض الخير الذي فيه، ثم يحفزه للكمال بفعل بعض المأمورات أو ترك بعض المنهيات، فهذا مظنة الاستجابة للنصيحة، فقبل أن يوجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى قيام الليل قال: ( نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ) رواه البخاري .
ومنه ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف يوما بين أصحابه، فقال: ( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟، فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم وأرجو أن تكون منهم ) رواه البخاري .
قال ابن بطال في شرحه للحديث: " أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم على وجه الإعلام بصفاتهم، لتعرف لهم سابقتهم وتقدمهم في الفضل، فينزلوا منازلهم، ويقدموا على من لا يساويهم، ويقتدى بهم في الخير، ولو لم يجز وصفهم بالخير والثناء عليهم بأحوالهم لم يعلم أهل الفضل من غيرهم، ألا ترى أن النبي ـ عليه السلام ـ خص أصحابه بخواص من الفضائل بانوا بها عن سائر الناس وعرفوا بها إلى يوم القيامة " .

وكذلك مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في حضوره فقال: ( ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: " وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صدقا محضا، وكان الممدوح يؤمن معه الإعجاب والكبر مدح به، ولا يدخل ذلك في المنع، ومن جملة ذلك الأحاديث المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصف به من الأوصاف الجميلة " .

المدح المذموم :

من المدح المذموم : المغالاة في المدح التي تؤدي إلى التعدي ومجاوزة الحقيقة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم – عنها، فقال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله ) رواه البخاري . ومعنى (لا تطروني) أي:  لا تجاوزوا في مدحي .
وعن الربيع بنت معوذ ـ رضي الله عنها ـ قالت دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين ) أي: من الشعر الذي لا مغالاة فيه رواه البخاري .
وفي هذا براءة نبوية من كثير مما يصنعه ويقوله عنه بعض المسلمين، كادعاء بعضهم أنه - صلى الله عليه وسلم - يعرف الغيب، أو أنه يقدر على دفع الضر أو جلب النفع لهم، وغير ذلك مما لم يثبت له ولا عنه - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن حجر: " وفي هذا الحديث جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه .. وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حين أطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى ".

ومن صور المدح المذموم : مدح من يخشى عليه الفتنة، فيعتقد فضله، وربما تطرق لقلبه الكبر والرياء، وأن له حقا على الناس وقدرا، وربما ظن أنه فاق غيره من السابقين واللاحقين في الفضل، فاتكل على ذلك وترك العمل أو قصر فيه، ويحمل عليه حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: ( سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يثني على رجل ويطريه في المدحة، فقال: أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل ) رواه البخاري .
قال المهلب: " وإنما قال هذا، والله أعلم، لئلا يغتر الرجل بكثرة المدح، ويرى أنه عند الناس بتلك المنزلة، فيترك الازدياد من الخير ويجد الشيطان إليه سبيلا، ويوهمه فى نفسه حتى يضع التواضع لله " .
وقال ابن حجر: " قال ابن بطال : حاصل النهي هنا أنه إذا أفرط في مدح آخر بما ليس فيه، لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف به " .

وكذلك من الصور المذمومة للمدح : مدح من لا يستحق المدح من الفساق والظالمين، فمدحهم والثناء عليهم يغرهم ويغريهم بالمزيد، وهذا ما يجعل المادح شريكا في الظلم والفسق ومعينا عليه، وقد قال تعالى: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون }(هود: 113).
وعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل ) رواه أبو داود .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ) رواه الترمذي .
قال ابن حجر: " وقال الغزالي في الإحياء: آفة المدح في المادح أنه قد يكذب، وقد يرائي الممدوح بمدحه، ولا سيما إن كان فاسقا أو ظالما " .

ومنها : مدح الرجل بما لا يدري حقيقته على وجه الجزم، كالحكم على معين أنه من الصالحين أو الأتقياء، وهذا مما لا يمكن لأحد القطع فيه، فهو غيب لا يعرفه إلا الله، لذلك ينبغي أن يضيف المادح ما يعلق مدحه بالظن، كقوله: أحسبه تقيا، أو أظنه من الصالحين .
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ، عن أبيه: أن رجلا ذكر عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ويحك، قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: " أي لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ما في ضميره لكون ذلك مغيبا عنه، وجيء بذلك بلفظ الخبر ومعناه النهي أي لا تزكوا أحدا على الله، لأنه أعلم بكم منكم " .

فائدة :

الأحاديث التي تمنع المدح وتذمه لا تتعارض مع الأحاديث الأخرى التي تفيد الإباحة، وقد جمع بينهما النووي في شرحه لمسلم فقال: " قال العلماء: وطريق الجمع بينها أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح ، وأما من لا يخاف عليه ذلك لكمال تقواه، ورسوخ عقله ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخير، والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به، كان مستحبا . والله أعلم " .
وإذا كان المدح للناس شهادة نشهدها لهم بين يدي الله ـ عز وجل ـ، وشهادة لهم عند الناس، تبنى عليها بيوت وتجارات وغيرها من المصالح، فقد تعلمنا من هديه وسنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن لا نشهد إلا عن علم، وأن لا نمدح ونثني إلا بحق، وأن ننأى عن المبالغة في المدح، وأن لا نمدح إلا بما نعلم، وأن لا نقطع بحكم وغيب لا يعلمه إلا الله ..
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة