علل التقوى وأسبابها في القرآن الكريم

1 850

ورد في القرآن الكريم الحديث عن التقوى في سياقات كثيرة لدلات متعددة، فقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المتقين وعلى جميل خصالهم التي يتحلون بها، وتحدث عن الصفات التي ينبغي أن يمتازوا بها إضافة للتقوى؛ قال تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا} [المائدة: 93]، وأوضح – كذلك - الصفات التي تقرب صاحبها من التقوى؛ قال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة: 237]، {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، والصفات التي تباعد بين العبد والتقوى

وتحدث القرآن عن ثمرات التقوى في العاجل والآجل؛ والتي منها أنها سبب في تفريج الهم، وسعة الرزق، وتيسير الأمر، وأنها سبب لمعية الله، ومحبته، ونصرته، وولايته، وفسيح جناته، قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق:2-3]، {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} [الطلاق:4]، {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} [الطلاق:5]، {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} [الأنفال:29]، {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [المائدة:65]، {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل:128]، {إن الله يحب المتقين} [التوبة:4]، {والله ولي المتقين} [الجاثية:19]، {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13]، {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا} [مريم:63].

والذي نريد أن نتحدث عنه الآن هو علل وجوالب التقوى التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم؛ مرة بصيغة المخاطب الحاضر: {لعلكم تتقون}، {لتتقوا}، ومرة بصيغة الغائب الماضي: {لعلهم يتقون}، وأحيانا بصيغ غير مباشرة؛ مثل قوله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، [الحج: 32]، ومهما اختلفت هذه السياقات فإن فيها خطابا مباشرا لنا نستخلص العبر من دلالاته؛ ذلك أن خطابات التشريع ونحوها تحمل دلالات العموم سواء في ذلك منها ما ورد في سياق الغيبة أو الحضور؛ فهي غير جارية على المعروف في توجه الخطاب في أصل اللغات لأن المشرع لا يقصد لفريق معين .

وبتتبع واستقراء هذه العلل التي ربطها الله سبحانه وتعالى بتقواه، نجد أنها أنواعا متعددة؛ وهي:

أولا: التفكر في أصل الخليقة والإيجاد:
قال تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 21] فمطالعة الآيات التكوينية المنصوبة في الأنفس والآفاق من ما يتعلق بالأنفس من خلقها وخلق أسلافها يقضي قضاء متقنا باستحقاق المولى سبحانه وتعالى للعبودية وإفراده بالتقوى .

ثانيا: العناية بأوامر الله وذكره والتمسك بطريقه القويم:
قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 153]، وقال عز وجل: {خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون } [البقرة: 63]، و[الأعراف: 171]، ينبه الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات إلى أن الأخذ بالأوامر والنواهي وعموم المحرمات والمحللات والأحكام والإشارات والآداب والمعاملات هو الصراط الموصل إلى توحيده تعالى مستقيما سويا بلا ميل ولا اعوجاج وأن اتباع السبل المتفرقة والطرق المختلفة المنحرفة المعوجة هي التي تنحرف بالأمة عن طريق التقوى وتضل بها عن سبيله لذلك وصانا الله بالتقوى رجاء أن نحذر بسببها عن سبل الأهوية الفاسدة والآراء الباطلة المضلة عن طريق الحق وتوحيده .

ثالثا: الصيام واستعظام شعائر الله:
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183]؛ فالغاية الكبرى من الصوم هي تقوى الله التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله وإيثارا لرضاه ... والتقوى – وحدها - هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية - ولو تلك التي تهجس في البال - والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه؛ فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفا وضيئا يتجهون إليه عن طريق الصيام، وفي سياق آخر يقول الله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32]، فالشعائر - وهي المعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها - أمور عظمها الله، وأمرنا بتعظيمها، وتعظيمها أبلغ وأشمل من مجرد القيام بها، إذ إن التعظيم يعني: تأديتها بحب وعشق وإخلاص، على الوجه الأكمل؛ فمحبة أمر الله مرقي من مراقي الإيمان، لا تسمو إليه إلا نفوس المتقين .

رابعا: الإنذار بوعيد الله واستحضار عقابه الدنيوي والأخروي: قال الله تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} [الأنعام: 51]، وقال تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} [البقرة: 187]، وقال عز من قائل: { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } [البقرة: 179]، وقال تعالى: {كذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} [طه: 113] .

خامسا: التدبر في بيان القرآن الكريم وإعجاز الذكر الحكيم:
قال تعالى: {قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} [الزمر: 28]، وقال تعالى: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون} [الأعراف: 63]، فقد أنزل الله لنا القرآن بلسان عربى مبين، يقع منه العلم، ومن العلم يكون الإيمان والتقوى .
والتقوى – عند علماء الأخلاق - على مراتب ثلاثة: توقي الشرك، وتجنب المعاصي، واجتناب ما عاق عن الحق؛ وقد جاء في السياق القرآني الأمر بالتقوى في جناب الله واتقاء حشره واتقاء ناره، قال تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين}، [آل عمران: 130، 131]، وقال تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} [البقرة: 48]، {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] .

وجماع الأمر أن الخوف ينبغي أن يكون من الله لأن ذلك هو الخوف اللائق بكرامة الإنسان أما الخوف من العقوبات مجردة فهو منزلة هابطة لا تحتاج إليها إلا النفوس الهابطة ... والخوف من الله أولى وأكرم وأزكى ... على أن تقوى الله هي التي تصاحب الضمير في السر والعلن؛ وهي التي تكف عن الشر في الحالات التي لا يراها الناس، ولا تتناولها يد القانون وما يمكن أن يقوم القانون وحده - مع ضرورته - بدون التقوى؛ لأن ما يفلت من يد القانون حينئذ أضعاف أضعاف ما يتناوله ولا صلاح لنفس، ولا صلاح لمجتمع يقوم على القانون وحده؛ بلا رقابة غيبية وراءه، وبلا سلطة إلاهية يتقيها الضمير؛ {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} [الحجرات: 3] .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. محفوظ ولد خيري

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة