- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:خواطـر دعوية
في كتابه (مع الرعيل الأول) يتحدث العلامة محب الدين الخطيب ـ رحمه الله ـ عن أخلاق المسلمين، وإيثارهم، فيقول:
إن العارفين بمعنى الزهد على حقيقته كانوا إذا وصفوا أهله قالوا: ليس الزهد أن يكون المرء فقيرا محروما فيزعم أنه زاهد، ولكن الزهد أن يملك الرجل أقطار الأرض المعمورة في آسيا وأفريقية، إلى أقصى بلاد أسبانيا والبرتغال من أوربا، ثم يزهد بكل ما تحت يده من نعيمها ومتعتها، كما فعل سيد الأرض، وملك المشرق، والمغرب عمر بن عبد العزيز.
ولا يكتفي عظيم الدنيا بهذا، بل يسترضي زوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، وكان أمير المؤمنين، وأخت هشام والوليد وسليمان ويزيد، وكانوا كلهم أمراء المؤمنين، فيأخذ منها حليها التي كانت من أثمن ما يتوارثه الملوك، ويردها إلى بيت مال المسلمين؛ إيثارا منه لإخوانه في الدين على نفسه وزوجه وولده، وزهدا منه في حطام الدنيا وألاعيبها الصبيانية، ويعيش في بيته مع أسرته - وهو خليفة الأرض - عيشة الشظف والزهد والقناعة بأقل ما تقوم به الحياة.
وإنما استطاع عمر بن عبد العزيز بن مروان أن يفعل هذا بفضيلة الإيثار التي آمن بها؛ في جملة ما آمن به من فضائل الإسلام، وكان لهذه الفضيلة في مجرى الدماء من شرايينه ميراث معدود من سجايا العرب؛ فاستطاع - بما جمع من إيمان دينه إلى سجايا أصله ـ أن يضرب للدنيا مثلا في الزهد والإيثار، قلما يستطيع أن يضربه للناس أحد ممن بلغ مبلغه في سعة الملك، وقدرة التصرف بأكثر ما على وجه الأرض من ثروة ومتعة ونعيم!
فأنت ترى أن سجية الإيثار والتضحية بالنفائس سجية جبل عليها العربي منذ كان ابن الصحارى والأودية والجبال، فتجلت في تصرف الأمير كعب ابن مامة الإيادي عندما آثر على نفسه ذلك الأعرابي من بني النمر بن قاسط بالماء، بل بالحياة.
ثم هذب الإسلام هذه السجية الممتازة، ونظمها، وركز توجيهها إلى الخير الأعلى؛ فتجلت في تصرف سيد آخر من سادات العرب، المتشبعين بالإسلام إلى أقصى مداه، وهو أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، فضرب للتاريخ مثلا لمن يحوز الدنيا بحذافيرها، ويقبض عليها بجميع ما في يد العربي القوي من أعصاب متينة، ويزهد - مع ذلك - بجميع ما استحوذ عليه من متع الدنيا ونعيمها!
وروى رجال دولته - أمثال المهاجر بن يزيد ومحمد بن قيس - أن فقراء البيوت المستورة، الذين كانت تصرف لهم الصدقات من بيت مال المسلمين - أثروا ( أي صاروا أغنياء ) في عهده، فصاروا هم يدفعون الزكاة عن أموالهم لبيت المال، وراح المزكون يبحثون عمن يستحق الزكاة؛ ليدفعوا إليه زكاة فلا يجدونه.
روى أبو محمد عبد الله بن الحكم المصري (214هـ) عن يحيى بن سعيد قال: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيرا، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت رقابا، فأعتقتهم، وولاؤهم للمسلمين!
هذا وعمر نفسه - وهو أمير المؤمنين - لم يكن له في بيته غير الثوب الذي على بدنه، فإذا أراد غسله انتظر حتى يجف، فيعود إلى لبسه، ويخرج به إلى الناس.. وروى معاصره سعيد بن سويد أن رجلا من القوم لم يطق الصبر على هذا الحال، فقال لعمر: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعطاك، فلو لبست وصنعت!
فنكس عمر رأسه مليا حتى عرفنا أن ذلك قد أساءه، ثم رفع رأسه وقال: إن أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند القدرة.
وزوجته أيضا
وزوجته الشريفة النبيلة التي كانت زوجة خليفة، وبنت خليفة، وأخت أربعة من الخلفاء، كانت راضية بعيشة الشظف مع زوجها بطيب نفس، وعظيم اطمئنان؛ لأنها هي أيضا تترع بعرق شريف إلى ذلك الأصل العظيم، الذي كان الإيثار سجية فيهم، زادها الإسلام تهذيبا.
وقد حدثتك بأن حليها الثمينة النادرة التي جاءتها من بيت أبيها أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان جردها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من يديها وعنقها وأذنيها برضا منها، ووضعها في بيت مال المسلمين؛ فلما كان بعد زمن طويل من وفاة زوجها عمر بن عبد العزيز بن مروان، وولاية أخيها الثالث يزيد بن عبد الملك بن مروان قال لها أخوها الخليفة: إن حليك الذي وضعت في بيت المال، هي من مالك الحلال، ولا تزال محفوظة بعينها كما كانت، فهل تحبين أن أردها عليك؟
فأجابته: إن أمير المؤمنين عمر قد استحسن أن تكون هذه الأشياء حيث هي الآن، وأنا قد وافقته على ما استحسن، وما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا.
قالت هذا وهي وأولادها وبناتها أحوج الناس إلى هذه الحلي؛ لأن ما كان يملكه عمر بن عبد العزيز من ضياع وأملاك رده على بيت المال في الأسبوع الأول من خلافته، ومزق حجج ملكيته، وهو على منبر مسجد بني أمية بدمشق، على ملأ من ألوف الأعيان والأمراء ووجهاء الناس.
وأرادت زوجته من بعده ألا تكون أقل منه إيثارا وتضحية، فاختارت أن تبقي عنقها وأذناها ويداها عاطلة من تلك الحلي والحلال، ولو كانت أخت الخليفة يزيد بن عبد الملك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب ("الإيثار في زمان نذل" للبسيوني)