مفهوم كلمة "السياسة" في القرآن والسنة

0 1436

السياسة في اللغة: مصدر ساس يسوس سياسة. فيقال: ساس الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العلف والسقي، والترويض والتنظيف وغير ذلك.

وأحسب أن هذا المعنى هو الأصل الذي أخذ منه سياسة البشر. فكأن الإنسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، ارتقى إلى سياسة الناس، وقيادتهم في تدبير أمورهم. ولذا قال شارح القاموس: ومن المجاز: سست الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم. وساس الأمر سياسة: قام به. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه.

وتعرفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت - نقلا عن معجم (روبير)- بأنها: (فن إدارة المجتمعات الإنسانية).

وحسب معجم (كامل): (تتعلق السياسة بالحكم والإدارة في المجتمع المدني).
وتبعا لمعجم العلوم الاجتماعية: تشير السياسة إلى: (أفعال البشر التي تتصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن دائما: استخدام القوة، أو النضال في سبيلها).
ويذهب المعجم القانوني إلى تعريف السياسة أنها: (أصول أو فن إدارة الشؤون العامة).

كلمة (السياسة) في تراثنا الإسلامي
إذا عرفنا مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا، فينبغي أن نبحث عنها في تراثنا الإسلامي، وفي فقهنا وفكرنا الإسلامي، وفي مصادرنا الإسلامية. هل نجدها في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي فقه المذاهب المتبوعة، أو غيره من الفقه الحر؟ وهل نجدها عند غير الفقهاء من المتكلمين والمتصوفة والحكماء والفلاسفة؟ وكيف تحدث هؤلاء وأولئك عن السياسة؟ وما الموقف الشرعي المستمد من الكتاب والسنة من هذا كله؟

كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن
كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيه، ولا في مدنيه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا. ومن قرأ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) يتبين له هذا. ولهذا لم يذكرها الراغب في (مفرداته). ولا (معجم ألفاظ القرآن) الذي أصدره مجمع اللغة العربية. وقد يتخذ بعضهم من هذا دليلا على أن القرآن -أو الإسلام- لا يعني بالسياسة ولا يلتفت إليها. ولا ريب أن هذا القول ضرب من المغالطة، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه مبثوث في القرآن.

أضرب مثلا لذلك بكلمة (العقيدة) فهي لا توجد في القرآن، ومع هذا مضمون العقيدة موجود في القرآن كله، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل العقيدة هي المحور الأول الذي تدور عليه آيات القرآن الكريم.

ومثل ذلك كلمة (الفضيلة) فهي لا توجد في القرآن، ولكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالحث على الفضيلة، واجتناب الرذيلة.

فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ (السياسة) جاء بما يدل عليها، وينبئ عنها، مثل: كلمة (الملك) الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم. جاء ذلك في القرآن بصيغ وأساليب شتى، بعضها مدح، وبعضها ذم. فهناك الملك العادل، وهناك الملك الظالم، الملك الشوري، والملك المستبد.
ذكر القرآن في الملك الممدوح: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما}[النساء:54].
وذكر من آل إبراهيم: يوسف الذي ناجى ربه فقال: {رب قد آتيتني من الملك} [يوسف:101]، وإنما قال من الملك، لأنه لم يكن مستقلا بالحكم، بل كان فوقه ملك، هو الذي قال له: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف:54].

وممن آتاهم الله الملك: طالوت، الذي بعثه الله ملكا لبني إسرائيل، ليقاتلوا تحت لوائه، {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} [البقرة:247]. وذكر القرآن من قصته مع جالوت التي أنهاها القرآن بقوله: {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} [البقرة:251]. وكذلك سليمان الذي آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.

وممن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكنه الله في الأرض وآتاه الله من كل شيء سببا، واتسع ملكه من المغرب إلى المشرق، وذكر الله تعالى قصته في سورة الكهف، مثنيا عليه. فقال: {إنا مكنا له في الأرض...}[الكهف:84].

وممن ذكره القرآن: ملكة سبأ التي قام ملكها على الشورى لا على الاستبداد {ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون} [النمل:32].

وفي مقابل هذا ذم القرآن الملك الظالم والمتجبر، المسلط على خلق الله، مثل: ملك النمروذ، الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك.
ومثل: ملك فرعون الذي {علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}[القصص:4].

وبعض الملوك لم يمدحهم القرآن ولم يذمهم، مثل ملك مصر في عهد يوسف، وهو الذي ولى يوسف على خزائن الأرض. وإن كان في حديث القرآن عن بعض تصرفاته ما ينبني عن حسن سياسته في ملكه.
فهذا كله حديث عن السياسة والسياسيين تحت كلمة غير (السياسة).

ومثل ذلك: كلمة (التمكين) كما في قوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء} [يوسف:56]، وقوله عن بني إسرائيل:{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}[القصص:5]، وقوله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور }[الحج:41].

ومثل ذلك: كلمة (الاستخلاف)، وما يشتق منها، مثل قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [النور:55]. وقوله تعالى: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [لأعراف:129].

ومثل ذلك كلمة (الحكم) وما يشتق منها، مثل قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا} [النساء:58]، وهي الآية التي أدار عليها ابن تيمية نصف كتابه "السياسة الشرعية". وقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله} [المائدة:49]، وقوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}[المائدة:50]، وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}[المائدة:45]، وفي آية:{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة:47]، وفي آية ثالثة:{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44].

ما ورد عن السياسة في السنة
على أن السنة النبوية قد وجدت فيها حديثا تضمن ما اشتق من السياسة، وهو الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".

أول استخدام لكلمة سياسة في معنى الولاية والحكم في تراثنا
وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في مادة (سياسة) قولها: لعل أقدم نص وردت فيه كلمة (السياسة) بالمعنى المتعلق بالحكم هو قول عمرو ابن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية: إني وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير.

وهذا مقبول إن كان المقصود كلمة (السياسة) مصدرا. أما المادة نفسها باعتبارها فعلا، فقد وردت كما ذكرناه في الحديث السابق المتفق عليه عن أبي هريرة، وكما وردت بعد ذلك منذ عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، بوصفها فعلا مضارعا.

روى ابن أبي شيبة في مصنفه، والحاكم في مستدركه، عن المستظل ابن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قد علمت -ورب الكعبة- متى تهلك العرب! فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول.

وكذلك رويت نفس الصيغة (صيغة الفعل المضارع) عن سيدنا علي رضي الله عنه. روى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن الجعد في مسنده: قال علي: يا أهل الكوفة! والله لتجدن في أمر الله، ولتقاتلن على طاعة الله، أو ليسوسنكم أقوام أنتم أقرب إلى الحق منهم، فليعذبنكم ثم ليعذبنهم.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة