الواجب الثقيل!!

0 638

حين تتوقف سعادة إنسان في هذه الحياة أو تعاسته فيها، ونجاته في الآخرة أو هلاكه فيها، على حركة امرئ أو سكونه، أو نطقه أو سكوته أو علوه في همته أو سفوله.. فلا شك أن هذا الحمل ثقيل، فكيف إذا كانت نجاة البشرية كلها أو جلها على يديه ورهن تبليغه لدعوته؟

إن حالة مثل هذا الرجل صاحب المسئولية لا يمكن أن تصور بأعظم من قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}(الشعراء: 3)، {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}(الكهف:6). كما قال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}[فاطر:8]، وقال: {ولا تحزن عليهم}[النحل:127].

إنه الحزن والهم والغم الذي يودي بحياة صاحبه كمدا، لا خوفا على شخصه هو وإنما خوفا على أشخاص المدعوين..
يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}: "يقول تعالى ذكره: لعلك يا محمد قاتل نفسك ومهلكها إن لم يؤمن قومك بك، ويصدقوك على ما جئتهم به.. والبخع: هو القتل والإهلاك في كلام العرب..
وروى عن ابن عباس قوله:( باخع نفسك): قاتل نفسك... وعن قتادة قال: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} قال: لعلك من الحرص على إيمانهم مخرج نفسك من جسدك، قال: وذلك البخع."(19/326)

وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} ما خلاصته:... باخع: أي مهلك نفسك بحزنك عليهم؛... يقول: لا تهلك نفسك أسفا. أي: لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.(تفسير ابن كثير3/ ).

إن هذا هو حال صاحب الرسالة الذي يعلم عظم المسئولية الملقاة على عاتقه، وإذا كان هذا هو وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وحاله فإنه كذلك ينبغي أن يكون حال من سار على هديه، ونهج طريقه، وسلك سبيله من أتباعه ودعاة أمته الذين وصفهم بقوله: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}(يوسف: 108)

يقول صاحب الظلال (ج6/30) ما خلاصته:
والدعاة إلى الله يعلمون أن مصائر البشرية كلها ـ في الدنيا وفي الآخرة ـ منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم، فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم، ويترتب ثوابهم أو عقابهم في الدنيا والآخرة.

إنه الأمر الهائل العظيم.. أمر رقاب الناس.. أمر حياتهم ومماتهم.. أمر سعادتهم وشقائهم.. أمر ثوابهم وعقابهم.. أمر هذه البشرية، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف بالتبليغ فلم يبلغ!

فأما رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل.. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان وفقط، ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق.. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين؛ بما أنه المبلغ الأخير، وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات.. فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان، إنما أزالها كذلك بالسنان {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}

وبقي الواجب الثقيل على من بعده.. على المؤمنين برسالته.. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة الله على الناس؛ وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء.. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدى..

فالرسالة هي الرسالة؛ والناس هم الناس.. وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات.. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة؛ وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة.. الموقف هو الموقف؛ والعقبات هي العقبات، والناس هم الناس. ولا بد من بلاغ، ولا بد من أداء.. بلاغ بالبيان، وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعية لما يبلغون.. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة.. وإلا فلا بلاغ ولا أداء..

إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله.. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها؛ وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله، وعدم النجاة من النار..

فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟!

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة