من مواقف الشهود الحضاري للأنصار

2 1498

الأنصار هم قبائل الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة، وهما قبيلتان قحطانيتان، جاءتا من مملكة سبأ في اليمن على إثر خراب سد مأرب، وبعد مجيء رسالة الإسلام كانا أول عشيرة آمنت بها وصدقتها، فهاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وتوحدت كلمتهم وأصبحوا جميعا يعرفون باسم الأنصار، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

سماهم الله أنصارا بنصرهم     دين الهدى وعوان الحرب تستعر

ولعل المجتمعات الإنسانية لم تشهد مجتمعا في عراقة ونبل وكريم خصال مجتمع أنصار النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، أولئكم البررة الذين كانوا أول حصن احتضن هذا الدين وناكف ودافع عن حماه، وهيأ البيئة المناسبة التي بنيت عليها دولة الإسلام فكانت بنيانا سامقا أصله ثابت وفرعه في السماء، آتى أكله ناشرا حضارة إلهية أنقذت البشرية من ضلال وجهل واصطراع كانت تصطخب فيه .

ولا جرم أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتحلون جميعهم بصفات نادرة جعلتهم مؤهلين للاختيار الرباني ليكون حملة لآخر رسالة سماوية للأرض، وهم الذين ثبتت صفتهم على أفضل ما يوصف به المؤمن في التوراة والإنجيل والقرآن؛ قال تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} [الفتح: 29]، هذا الوصف ثابت لجميع الصحابة إلا أن الأنصار خصوصا تميزوا ببعض المواقف الحضارية النبيلة التي أرى أنها بحاجة للتوقف عندها، واستنباط العبر والدروس منها

فهم الذين احتضنوا الدعوة حين رفضتها جميع القبائل، وسخروا أموالهم وأنفسهم وديارهم في سبيل الدفاع عنها و إزالة العوائق عن طريقها، وتبرؤوا من تحالفاتهم في الجاهلية و أخلصوا الولاء للإسلام، وهم أصحاب البيعتين اللتين تعهدوا فيهما أن يحموا النبي صلى الله عليه وسلم مما يحمون منه أنفسهم ونسائهم، وهم عاصمة خلافة الإسلام طيلة فترة الخلافة الراشدة.
 
وفي أول اختبار حقيقي لعزيمة الأنصار في معركة بدر التي كانت خارجة – إجرائيا - عن نص معاهدة بيعة العقبة التي لم تنص على خروج الأنصار إلى أي حرب خارج ديارهم وإنما حماية الرسول صلى الله عليه وسلم داخل المدينة فقط وعدم إخراجه منها، كان جواب الأنصار صارخا على لسان سعد بن معاذ - حامل راية الأنصار – الذي وقف موجها خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
 
ويكفيهم أن الله قد شهد لهم بأنهم، { يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }، وختم بالشهادة لهم بالفلاح: { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [الحشر: 9] .
والواقع أن فضل الأنصار ومآثرهم – بل وحتى مواقفهم - أكثر من أن يطالها الحصر، لكننا سنقف وقفة عجلى عند موقفين اثنين من نوادر مواقف المجتمعات ربما في التاريخ الإنساني كله:

الموقف الأول:
في ختام غزوة حنين بعدما أفاء الله على رسوله وفرق الخير في الناس وأعطى قبائل العرب تلك العطايا التي ملأت رحب الفضاء من النعم والشاء والغنم، ومن الذهب والفضة والمال، ولنستمع لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو يحكي ماحدث؛ إذ يقول: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد" ؟
 
فقال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: "فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة" قال فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له، أتى سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، ووجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم" ؟ قالوا بلى، الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار" 
 
قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل، قال: "أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار" قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا .

الموقف الثاني:
 بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه على وجه التحديد، يرويه الهيثم بن عدي عن عوانة قال: جاء مال من البحرين إلى أبي بكر رضي الله عنه، فساوى فيه بين الناس، فغضبت الأنصار وقالوا: فضلنا، فقال لهم أبو بكر: صدقتم، إن أردتم أن أفضلكم فقد صار ما عملتم للدنيا، وإن شئتم كان ذلك لله والدين! فقالوا: والله ما عملناه إلا لله وانصرفوا.
فرقى أبو بكر المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال:
" والله يا معشر الأنصار، لو شئتم أن تقولوا: إنا آويناكم وشاركناكم في أموالنا ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإن لكم من الفضل ما لا نحصيه عددا وإن طال به الأمد، فنحن وأنتم كما قال الغنوي:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا ...   إلى حجرات أدفأت وأظلت
أبوا أن يملونا، ولو أن أمنا ...    تلاقي الذي لاقوه منا لملت "

من خلال مقارنة سريعة بين هذين الموقفين نستنتج ماكان عليه أنصار النبي صلى الله عليه وسلم من نبل السجايا وكريم الخصال وتحمل مسؤلية الشهادة والدين، وما تمتعوا به رضوان الله عنهم وعن صحابة رسول الله أجمعين من أخلاق عاليه ومستوى من الإخلاص والتجرد لله فريد من نوعه، وهي كذلك تدل على استمرارية هذا الإخلاص والتجرد وأنه لم يكن في الفترة الأولى من الدعوة فقط، بل تضاعف بعد موت النبي صلوات وربي وسلامه عليه فقد استمروا على منهجهم في الإيثار والتعفف والتعالي على أطماع الدنيا وحظوظ النفس، وكم في ذلك من مجاهدة، كذلك فإنه يدل على مدى اللحمة والاتحاد ووحدة الكلمة الذي أصبح عليه الأنصار بعد الإسلام بعد أن كانوا أعداء يتربص كل فريق منهم بالآخر.
 
بل إن بعض المصادر تذكر أن الحروب الطاحنة استمرت بين الأوس والخزرج قرنا وربع القرن من الزمان (نحو 120 سنة) طلبا للرئاسة والسيادة على يثرب ولم تنته حتى جاء الإسلام فأطفأ نارها، وتحول مجتمع الأنصار تحولا كاملا عن ما كان عليه من الشقاق والفرقة وحب الرئاسة وطلب الدنيا، ويا لروعة هذه المظاهر العظيمة من مظاهر الإيمان والحب لله ولرسوله،
ومن ثم فلا عجب أن تصبح: " آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" كما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه كما عند [ أحمد (3/130، رقم 12338)، والبخاري (1/14، رقم 17)، ومسلم (1/85 ، رقم 74)]

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله " [ أحمد (4/292، رقم 18599)، والبخارى (3/1379، رقم 3572)، ومسلم (1/85، رقم 75)]، رزقنا الله حبهم، وجمعنا بهم في دار الكرامة والنعيم، بمنه وكرمه، إنه على ذلك قدير .

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة