تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها(1)

3 1500

ثمرات صيفية، وأخرى شتوية، بعضها سكري المذاق، والبعض الآخر تشوبه المرارة، فواكه تتفاضل فيما بينها في الأكل، تلك حال ثمار الدنيا، بيد أن للإيمان شجرة طيبة مورفة الظلال، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ثمارها يانعة، يتحصلها المؤمن في عاجل أمره وآجله، وفي يسره وعسره، وفي قلبه وبدنه.

إنه حديث عن الجنى اللذيذ الذي يجتنيه المؤمن من إيمانه، حينما ترسخ شجرة الإيمان في قلبه ويستوي عودها، فيجد من ثمارها المتنوعة ما يعود عليه بالنفع والخير، وهو الأمر الذي ذكره الله سبحانه وتعالى منبها عليه في قوله: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء*تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} (إبراهيم:24-25)، قال الربيع بن أنس: "{كلمة طيبة}: هذا مثل الإيمان، والإيمان: الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفرعه في السماء: خشية الله".

ومع وقفة نستكشف من خلالها شيئا من الثمار التي يجتنيها العبد المؤمن حينما ترسخ شجرة الإيمان في قلبه، وتستوي على ساقها باسقة في السماء، نلقي الضوء عليها من خلال عدد من المقالات، وهي أمور مبثوثة في نصوص الكتاب والسنة الصحيحة.

فمن ثمارها: أن المؤمن ينال شرف الدفاع الإلهي عنه والحماية من المكاره والمساويء، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} (الحج:38)، وقد ذكر العلماء أن الآية إخبار ووعد وبشارة من ربنا جل وعلا، للذين آمنوا، أنه يدافع عنهم كل مكروه وكل شر بسبب إيمانهم، فمن تلك الشرور: شر الكفار، وشر وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، كذلك يضع عنهم عند نزول المكاره ما لا يتحملون، وكل مؤمن له نصيب من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقل ومستكثر.

ولنا في حياة سيد المرسلين –صلى الله عليه وسلم- خير مثال على هذه الحماية والنصرة الإلهية، فكم حاول كفار قريش وأساطينهم، والمنافقون بدسائسهم، أن ينالوا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- شرا، وتعددت محاولات اغتياله وقتله، ففي العهد المكي حاول المشركون يوم الهجرة أن يهجموا عليه هجمة رجل واحد ثم يفرقوا دمه بين القبائل، لكن الله سبحانه وتعالى جعل بينه وبين الذي كادوا له سدا منيعا، وحجرا محجورا.

ذكر ابن القيم في "زاد المعاد" هذه الحادثة بشيء من التفصيل، حيث اجتمع نفر من قريش في ليلة الهجرة النبوية يتطلعون من فتحة الباب ويرصدونه، ويريدون قتله، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم فأخذ حفنة من التراب، فجعل يذره على رؤوسهم، وهم لا يرونه، وهو يتلو: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} (يس: 9)، ومضى عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم خرجا من خوخة –وهي النافذة الكبيرة في البيت- من دارأبي بكر ليلا. وعندما أصبح الصباح جاء رجل من المشركين فرأى القوم بباب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، فقال: خبتم وخسرتم، والله قد مر بكم، وذر على رءوسكم التراب، قالوا: والله ما أبصرناه. وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، وكفاه الله سيئات ما مكروا.

وأعجب من هذا، ما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما ذهب في غزوة المصطلق، نزل في وقت القيلولة تحت سمرة فعلق بها سيفه، ثم نام نومة، فإذا بأحد الأعراب يستغل فرصة نومه فيأخذ سيف رسول الله عليه الصلاة والسلام ليقتله، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام والأعرابي عند رأسه يقول: فقال لي: من يمنعك مني؟ فقال –صلى الله عليه وسلم- بكل ثقة: الله. فما استطاع الأعرابي فعل شيء، بل أعاد السيف إلى غمده وجلس بين يدي من كان يريد قتله قبل لحظات، وصدق أحكم الحاكمين إذ يقول: {والله يعصمك من الناس} (المائدة: 67).

ومن مقتضيات المدافعة عن الذين آمنوا، مدافعة المكاره والشرور والمصائب، يقول قتادة: "والله ما ضيع الله رجلا حفظ له دينه"، ولذلك نلمح الربط بين النجاة الإلهية التي كانت لنبي الله يونس عليه السلام، وبين اتصافه بالإيمان، لنعلم أن المؤمنين هم أولى الناس بالعناية الربانية، والحفظ والرعاية، لنقرأ قوله تعالى: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} (الأنبياء: 88)، كذلك توالى ذكر أهل الإيمان، في قصص الأنبياء الذين حفظوا من عذاب الله يوم نزل على أقوامهم: {ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ} (هود:58)، {فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز} (هود:66)، {ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين} (هود:94).

وإذا كانت التقوى من لوازم الإيمان، فإن ذلك يعني أن فضائلها  التي بشر الله سبحانه وتعالى عباده بها هي كذلك من ثمار الإيمان، فقد جاء الوعد الإلهي بأن يجعل له النجاة من كل كرب في الدنيا والآخرة، والرزق من حيث لا يدري، واليسر من حيث لا يعلم: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا* ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق:2-3)، { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} (الطلاق:4).

فالتسهيل لكل أمر عسير، والفرج من كل ضيق، والتذليل لكل صعب، المخرج من كل معضلة، والرزق بالخيرات والبركات، إنما هو لأهل التقى والإيمان، الذين امتثلوا أوامر الله سبحانه وتعالى، واجتنبوا كل ما نهى عنه، وأتبعوا السيئة الحسنة، وتعلقت قلوبهم بخالقهم ومولاهم، فكوفئوا بهذه الثمار :

                          من يتق الله في سر وفي علن ... يمنحه رزقا وأجرا غير ممنون

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة