اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي

0 1467

سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحياته أعظم نبع لمن يريد تربية المجتمع على قيم الرأفة والرحمة، والتي ظهرت في حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الناس عامة، وأمته خاصة، وكان هذا الحرص دليلا على حسن خلقه وصدق نبوته، ولذلك وصفه الله ـ عز وجل ـ بقوله: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم }(التوبة: 128) . 
ذكر القرطبي في تفسيره عن الحسين بن الفضيل قوله: " لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإنه قال: { بالمؤمنين رؤوف رحيم }(التوبة: من الآية128)، وقال تعالى: { إن الله بالناس لرؤوف رحيم }(الحج: من الآية65) " 
وقال الشيخ السعدي في تفسيره: " أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتعزيره وتوقيره " .

والأمثلة والصور التي تدل على حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته ورأفته ورحمته بهم ـ أفرادا وجماعات ـ كثيرة، منها :

عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحسن بن على، وعنده الأقرع بن حابس التيمى، فقال الأقرع: إن لى عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: من لا يرحم لا يرحم ) رواه البخاري .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( دخل أعرابي المسجد ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالس، فصلى، فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، فالتفت إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: لقد تحجرت واسعا، فلم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع إليه الناس ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أهريقوا عليه سجلا من ماء، أو دلوا من ماء، ثم قال : إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه أبو داود .
وعن معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بينا أنا أصلي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت. فلما صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ماكهرني، ولا ضربني ولا شتمني قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) رواه مسلم .
قال النووي: " فيه بيان ما كان عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم " .

ومع أن التقرب إلى الله أمر محمود ومأمور به، إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعرض عن عبادة من العبادات، أو يترك عملا من الأعمال - وهو ومحبب إلى قلبه - لا لشيء إلا لخوفه أن يشق على أحد من أمته، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ) رواه البخاري .
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : ( إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز (أخفف) في صلاتي، كراهية أن أشق على أمه ) رواه أحمد .

ومن صور حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته ورحمته ورأفته بهم : خوفه عليهم من النار، ورغبته أن يكونوا أكثر أهل الجنة، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب ) رواه أحمد .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال - صلى الله عليه وسلم ـ : ( إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيأتوني فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، أمتي فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله ) رواه البخاري .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلا قول الله ـ عز وجل ـ في إبراهيم ـ عليه السلام ـ: { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }( إبراهيم الآية : 36 )، وقال عيسى عليه السلام: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }( المائدة الآية : 118 )،فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله ـ عز وجل ـ: يا جبريل ! اذهب إلى محمد، - وربك أعلم -، فسله ما يبكيك؟، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) رواه مسلم .
 قال النووي: " هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد، منها: بيان كمال شفقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم، ومنها: استحباب رفع اليدين في الدعاء، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة، زادها الله تعالى شرفا بما وعدها الله تعالى بقوله: سنرضيك في أمتك ولا نسوءك، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها، ومنها: بيان عظم منزلة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الله تعالى، وعظيم لطفه سبحانه به ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .

للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصفات والأخلاق أعظمها وأكملها، قال الله ـ تعالى ـ عنه: { وإنك لعلى خلق عظيم }(القلم:4) .
قال السعدي: " الآيات الحاثات على الخلق العظيم، كان له منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ سهلا لينا، قريبا من الناس، مجيبا لدعوة من دعاه، قاضيا لحاجة من استقضاه، جابرا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه منه أمرا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم بل يشاورهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسا له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيرته غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .
وقد وصفه الله تعالى بالحرص على أمته والرأفة والرحمة بها فقال: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }(التوبة:128) .

                      ومما زادني شرفا وتيها       وكدت بأخمصي أطأ الثريا
                     دخولي تحت قولك يا عبادي   وأن صيرت أحمد لي نبيا

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة