السيرة النبوية ربانية ووسطية

0 1618

تعد السيرة النبوية تجسيدا حيا لتعاليم الإسلام، فلا يستغني عن دراستها والنظر فيها أي عالم أو طالب علم، فهي دوحة عظيمة فيها كل الثمار اليانعة، كل يقطف منها ما يناسبه، وكيف لا تكون كذلك وهي ربانية المصدر قال الله تعالى: { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا }(النساء:170)، ثم هي سيرة أعظم مخلوق وجد على ظهر هذه الأرض منذ آدم إلى يوم القيامة، والذي قال عنه ربه ـ عز وجل ـ: { وإنك لعلى خلق عظيم }(القلم:4)، والذي لن ندخل الجنة إلا بطاعته، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟!، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) رواه البخاري .

والسيرة النبوية هي سيرة نبينا محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، والتي تشتمل على الحديث عن أدق تفاصيل حياته في المرحلة المكية والمدنية، بل ومنذ ولادته إلى يوم وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومن ثم فهي تتميز وتختص بخصائص كثيرة، منها: ربانية المصدر، والوسطية والتيسير .

ربانية المصدر :

المصدر الأول للسيرة النبوية هو القرآن الكريم، كتاب الله وكلامه الذي أنزله على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون دستورا لخلقه، بين الله فيه كل ما يحتاج البشر، إجمالا أحيانا وتفصيلا أحيانا أخرى، وجعله كتاب هداية ونور، قال الله تعالى عنه: { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }(فصلت الآية:41: 42)، وقال: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }(الإسراء من الآية : 9 ) .
وقد تحدث القرآن الكريم عن الكثير من غزواته وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد أشار القرآن الكريم إلى الحالة التي نشأ عليها نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أول حياته فقال: { ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى }(الضحى: 6 : 8 )، ثم نزول الوحي عليه: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم }(العلق:1 : 5 )، وأشار إلى بداية تبليغ دعوته فقال: { وأنذر عشيرتك الأقربين }(الشعراء:214)، ووصف أخلاقه وشمائله عامة فقال: { وإنك لعلى خلق عظيم }(القلم:4)، وتحدث عن بعض هذه الأخلاق والشمائل فقال: { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين }( آل عمران: 159 )، وذكر بعضا من صور جهاده وغزواته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو وأصحابه، ففي غزوة بدر قال: { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون }( الأنفال: 5 )، وفي أحد: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم }(آل عمران:121)، وفي الخندق: { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا }(الأحزاب:10: 11)، وفي حنين: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين }(التوبة: 25) .. إلى غير ذلك من الكثير من شمائله وأخلاقه وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
وعلى هذا فالقرآن الكريم يعد المصدر الأول لسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكفى به صدقا وعدلا، قال الله تعالى: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }(فصلت:42) .

والسنة هي المصدر الثاني للسيرة النبوية، فهي صنو القرآن الكريم في الأوامر والأحكام والتشريع، وهي تبين مبهم القرآن، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }( النحل: 44)، فصاحب السيرة ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتلقى تعاليمه من الله ـ عز وجل ـ قرآنا وسنة، كما قال سبحانه: { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى }(النجم:3: 4)، ولا يقول شيئا من ذات نفسه فيما يتعلق بأوامر النبوة والرسالة، قال الله تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين }(الحاقة 44 :46 )، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أحاديثه: ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ) رواه أبو داود .
كما أن كتب السنة قد نقلت لنا معظم سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبأصح ما جاء فيها، حيث أورد البخاري ومسلم في صحيحيهما جملة كبيرة من السيرة النبوية، وكذا بقية كتب السنة، فلم تخل كتب الحديث غالبا عن ذكر ما يتعلق بحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومغازيه، وخصائصه وشمائله، وقد استمر هذا المنهج حتى بعد انفصال السيرة عن الحديث في التأليف وجعلها علما مستقلا، فكانت العناية بالسيرة تأتي ضمن عناية المحدثين بالحديث وجمعه، غير أن المغازي والسير لم تلبث أن انفصلت دراساتها وأبوابها عن الحديث، حيث ألفت فيها الكتب الخاصة بها، ومع ذلك ظل المحدثون يحتفظون بباب : " المغازي والسير " في كتب الصحاح المشهورة .

الوسطية والتيسير :

من خصائص ومميزات السيرة النبوية الوسطية والتيسير، ودين الإسلام عموما جاء بالوسطية كما قال تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }( البقرة: 143)، ومواقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحاديثه تظهر ذلك جليا، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) رواه البخاري .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه أبو داود .
وقال لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عندما بلغه إطالة صلاته بالناس: ( يا معاذ أفتان أنت، أو أفاتن أنت؟ ثلاث مرات، فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ) رواه البخاري .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألون عن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟!، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) رواه البخاري .
إن من سمات سيرته وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الوسطية والتيسير لأنها التطبيق العملي للإسلام، ومن ثم فأمة الإسلام أمة وسطية معتدلة، قال أبو جعفر الطبري وهو يصف أمة الإسلام : " فلا هم ( أي المسلمون ) أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين أبدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل وسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها " .

لا شك أن دراسة سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعرفة خصائصها وتفاصيلها أمر من الأهمية بمكان، وإذا كان العلم يشرف بشرف معلومه، فالمعلوم في علم السيرة هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -، ولقد كان السلف يقدرون للسيرة النبوية قدرها، وكانوا يحفظونها كما يحفظون السورة من القرآن، ويتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم .
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة