السداد في القول .. منحة الرب لأوليائه

1 1537

السداد في القول من شيم الأبرار، وشعار الأطهار، وتوفيق من العزيز القهار، القائم على كل نفس بما كسبت، وهو ثمرة مجاهدة طويلة، ومذاكرة للعلم مديدة، فالعلم يهذب المنطق ويجلو الفكرة ويسدد البيان، فالحمد لله الذي خلق فهدى وأنعم فأجزل النعم.

يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم مخاطبا عباده المؤمنين: {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب: 69-70]، ويقول سبحانه: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} [النساء:9]
هاتان الآيتان الكريمتان اختصتا بمصطلح قرآني وأدب رباني لم يرد في غيرهما من آيات الذكر الحكيم، وهو خلق السداد في القول.

وفي اللغة: السداد والسدد: الاستقامة. والسداد: إصابة القصد. وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض. قال ابن فارس: "ومن ذلك السديد، ذو السداد، أي الاستقامة كأنه لا ثلمة فيه". فالسداد بالمعنى العام هو التوفيق للصواب وإصابة القصد في القول والعمل.
غير أننا إذا تأملنا نصي ورود المصطلح نلاحظ أنهما يشتركان في أمور هي:

- ارتباط السداد بالقول في الآيتين معا.
- الدعوة إلى القول السديد مسبوقة في النصين بالدعوة إلى التقوى.
- أن المأمور بالسداد هم المؤمنون لا غيرهم.

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا} أي: في كل ما تأتون وما تذرون، لاسيما في ارتكاب ما يكرهه {قولا سديدا} أي: قويما حقا صوابا.

قال القاشاني: السداد: في القول، الذي هو الصدق والصواب، هو مادة كل سعادة، وأصل كل كمال؛ لأنه من صفاء القلب، وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات، وهو وإن كان داخلا في التقوى المأمور بها، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى، لكنه أفرد بالذكر للفضيلة، كأنه جنس برأسه، كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.

والقول يكون بابا عظيما من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر. وفي الحديث: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" [أحمد والترمذي] فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.

{يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم} فجعل صلاح الأعمال وغفران الذنوب متوقفا على سداد القول. وذكر {لكم} مع فعلي {يصلح} {يغفر} للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1].

{ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} (والطاعة بذاتها فوز عظيم. فهي استقامة على نهج الله. والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة. والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه. وليس الذي يسير في الطريق الممهود المنير وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه! فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها؛ وهي الفوز العظيم، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم. أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة. فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل. والله يرزق من يشاء بغير حساب). [في ظلال القرآن].

قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" [أحمد] فالتحري في المنطق منهج الصادقين، وطريقة المؤمنين الصالحين، ومن علامات فضل الإنسان وصلاحه: صلاح قوله وفعله، ومن لم يعتن بما يقول ويعاتب نفسه على زلات لسانه فهو ناقص الدين والعقل والتجربة.

قال أبو جعفر محمد بن يعقوب: كل صواب من القول ورث فعلا صحيحا فهو حكمة.

ومن الأدعية التي يرجى نفعها في هذا الأمر ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- عليا -رضي الله عنه- أن يدعو به: "اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم". وفي رواية: "اللهم إني أسألك الهدى والسداد" [مسلم].

قال القاضي: أمره بأن يسأل الله الهداية والسداد، وأن يكون في ذلك مخطرا بباله أن المطلوب هداية كهداية من ركب متن الطريق وأخذ في المنهج المستقيم، وسدادا كسداد السهم نحو الغرض، والمعنى أن يكون في سؤاله طالبا غاية الهدى ونهاية السداد.

نماذج طيبة

كان الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله رجلا صالحا عاقلا، وقورا كاملا، مفرط الذكاء، وأكثر ما كان من صفاته بعد سيادته في العلم وانقطاعه له ما كان من زهده وورعه؛ إذ كان متقللا من الدنيا جدا، متقشفا متعبدا، صبورا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: "إني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي".

وليس أدل على ذلك مما حكاه عنه تلميذه النضر بن شميل حيث قال: "أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة، لا يقدر على فلسين، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال" أي كان الناس يأكلون الدنيا بعلمه - رحمه الله -، كان بعضهم إذا أخذوا العلم عنه قربهم الحاكم وصاروا من حاشيته.

أرسل الأمير إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي - رحمه الله - ليخبره إن كان يريد منه أن يصله بشيء، فقال له الخليل: "أنا مستغن عنك بالذي أغناك عني".. فانظر إلى بليغ قوله وسداد رأيه رحمه الله.

ومن حكايات زهده أن سليمان بن علي والي البصرة وجه إليه يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده نظير راتب يجريه عليه، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزا يابسا، وقال: ما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فأنشأ يقول:

أبلغ سليمان أني عنـه في سعـة ***      وفي غنى غير أني لسـت ذا مـال

سخي بنفسي أني لا أرى أحـدا ***         يموت هزلا ولا يبقي على حـال

والفقر في النفس لا في المال نعرفه *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المـال

فالرزق عن قدر لا العجز ينقصـه ***        ولا يزيـدك فيه حـول محتـال

فقطع عنه سليمان الراتب، فقال الخليل:

إن الذي شق فمي ضامن *** للـرزق حتى يتوفـاني

حرمتني خيرا قليلا فما *** زادك في مالك حرمـاني

فبلغت سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه، فقال الخليل:

وزلة يكثر الشيطان إن ذكرت *** منها التعـجب جاءت من سليمـانا

لا تعجبن لخير زل عن يـده *** فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة